وفيما قاله نظر من حيث المعنى ؛ لأن التحدّي إنما يقع في أثر الخلق ـ وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات ـ لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم.
قال الزمخشري : أي أقدّر لكم شيئا مثل هيئة الطّير. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : «أقدر» تفسير للخلق ؛ لأن الخلق هنا ـ التقدير ـ كما تقدم ـ وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري ـ تعالى ـ.
وقرأ الزهريّ : «كهيئة» ـ بنقل حركة الهمزة إلى الياء.
وقرأ أبو جعفر : «كهيئة الطّائر» (١).
قوله : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) في هذا الضمير ستة أوجه :
أحدها : أنه عائد على الكاف ؛ لأنها اسم ـ عند من يرى ذلك ـ أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير.
الثاني : أنه عائد على «هيئة» ، لأنها في معنى الشيء المهيّأ ، فلذلك عاد الضمير عليها مذكّرا وإن كانت مؤنثة ـ اعتبارا بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) [النساء : ٨] ثم قال (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) فأعاد الضمير في «منها» على (الْقِسْمَةَ) لما كانت بمعنى المقسوم.
الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق.
الخامس : أنه عائد على ما دلّت عليه الكاف من معنى المثل ؛ لأن المعنى : أخلق من الطّين مثل هيئة الطّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقا مثل هيئة الطير. قاله الفارسي ؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك.
السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديّ ، قال : «ولا يجوز أن تعود الكناية على «الطّين» لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيّئا منه ـ والطين المتقدم ذكره عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين».
وفي هذا الرّد نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : لا نسلّم عموم الطين المتقدم ، بل المراد
__________________
(١) ينظر : المحرر الوجيز ١ / ٤٣٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٢ / ١٠٥.