فصل
روي أن عيسى ـ عليهالسلام ـ لما ادّعى النبوة ، وأظهر المعجزات ، طالبوه بخلق خفاش فأخذ طينا ، فصوّره ، فنفخ فيه ، فإذا هو يطير بين السماء والأرض (١).
قال وهب : كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ، ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق.
قيل : خلق الخفّاش ، لأنه أكمل الطير خلقا (٢) ، وأبلغ في القدرة ؛ لأن لها ثديا وأسنانا وأذنا ، وهي تحيض وتطهر وتلد.
وقيل : إنما طالبوه بخلق خفّاش ؛ لأنه أعجب من سائر الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطّيور ، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ـ قبل أن يسفر جدّا ـ ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون : إنه خلق أنواعا من الطير.
فصل
قال بعض المتكلمين : دلت الآية على أن الروح جسم رقيق ، كأنه الريح ؛ لأنه وصفها بالنفخ ، ثم هاهنا بحث ، وهو أنه هل يجوز أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أودع في نفس عيسى ـ عليهالسلام ـ خاصية ، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حيّا؟
ويقال : إن الله ـ تعالى ـ كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته ، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات ، وهذا الثاني هو الحق ؛ لقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقال إبراهيم عليهالسلام لمناظريه : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) معناه : بتكوين الله وتخليقه ؛ لقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] أي بأن يوجد الله الموت.
فصل
القرآن دل على أنه ـ عليهالسلام ـ إنما تولد من نفخ جبريل ـ عليهالسلام ـ في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض ، فكانت نفخة عيسى عليهالسلام سببا للحياة والروح.
__________________
(١) أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٦) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٧).