قال القرطبي : وأصل المكر في اللغة : الاحتيال والخداع ، والمكر : خدالة الساق ، والمكر : ضرب من النبات ويقال : بل هو المغرة ، حكاه ابن فارس ، قالوا : واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملقف ، تخيلوا منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه ، وامرأة ممكورة الخلق ، أي : ملتفة الجسم ، وكذا ممكورة البطن. ثم أطلق المكر على الخبث والخداع ، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعي بالفساد ، قال الزّجّاج هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم ، وعبر بعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان : محمود ، وهو أن يتحرّى به فعل جميل ، وعلى ذلك قوله : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ومذموم ، وهو أن يتحرّى به فعل قبيح ، نحو : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣].
فصل
أمّا مكرهم بعيسى ـ عليهالسلام ـ فهو أن عيسى لما خرج عن قومه ـ هو وأمه ـ عاد إليهم مع الحواريين ، وصاح فيهم بالدعوة ، فهمّوا بقتله ، فذلك مكرهم به. وأما مكر الله بهم ففيه وجوه:
أحدها : أن مكر الله استدراج العبد ، وأخذه بغتة من حيث لا يعلم ، كما قال (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم : ٤٤].
وقال الزّجّاج : «مكر الله» مجازاتهم على مكرهم ، فسمّى الجزاء باسم الابتداء ؛ لأنه في مقابلته ، كقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وقوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ). ومكر الله ـ تعالى ـ خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليهالسلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتل عيسى ، وكان جبريل لا يفارقه ساعة واحدة ، وهو معنى قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) [البقرة : ٨٧] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة ، وكان قد ألقي شبهه على غيره ، فأخذ ، وصلب ، فتفرّق الحاضرون ثلاث فرق:
فرقة قالوا : كان الله فينا فذهب. والأخرى قالت : ابن الله. والثالثة قالت : كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم.
الثاني : أن الحواريين كانوا اثني عشر ، وكانوا مجتمعين في بيت ، فنافق واحد منهم ، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ، ورفع عيسى ، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان منهم وقتلوه ، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليهالسلام ، ثم قالوا : وجهه يشبه وجه عيسى ، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا ، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتال عظيم ، حتى قتل بعضهم ، فذلك هو مكر الله بهم.
الثالث : قال محمد بن إسحاق : إن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه