أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت ، وذلك إنما هو بعد رفعه ، ونزوله إلى الأرض ، وحكمه بشريعة محمد صلىاللهعليهوسلم كما ثبت في الحديث. فعلى الأول ففيه وجوه :
أحدها : إني متمم عمرك ، وإذا تمّ عمرك فحينئذ أتوفّاك كما قدمناه.
الثاني : إني مميتك ، والمقصود منه ألا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبّاس ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه :
الأول : قال وهب : توفّي ثلاث ساعات ، ثم رفع وأحيي (١).
الثاني : قال محمد بن إسحاق : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه (٢).
الثالث : قال الربيع بن أنس : إنه ـ تعالى ـ أنامه حال رفعه إلى السماء (٣) ، قال تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢].
وثالثها : أن الواو لا تفيد الترتيب ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت أنه حي ، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلك.
رابعها : إني متوفيك عن شهواتك ، وحظوظ نفسك ، فيصير حاله كحال الملائكة ـ في زوال [الشهوات](٤) والغضب والأخلاق الذميمة ـ.
خامسها : أن التّوفّي أخذ الشيء وافيا ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه ، لا جسده ، ذكر ذلك ؛ ليدل على أنه ـ عليهالسلام ـ رفع بتمامه إلى السماء ـ بروحه وجسده.
وسادسها : إني متوفيك ، أي جاعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء ، وانقطع خبره ، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
وسابعها : أن التوفّي هو القبض ، يقال : فلان وفاني دراهمي ، ووافاني ، وتوفيتها منه ، كما يقال سلم فلان دراهمي إلي ، وتسلمتها منه. فإن قيل : فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع ، فيصير قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) تكرارا ، فالجواب : أن قوله (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يدل على حصول التّوفّي ، وهو جنس تحته أنواع ، بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد ، فلما قال : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) صار تعيينا للنوع ، فلم يكن تكرارا.
ثامنها : أن يقدر حذف مضاف ، أي : متوفي عملك ، بمعنى مستوفي عملك ،
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٧) عن وهب بن منبه وذكره القرطبي في «تفسيره» (٤ / ٦٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٨) عن ابن إسحاق.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٥) عن الربيع بن أنس.
(٤) في أ : الشهوة.