فإن قيل : الضمير في قوله : (خَلَقَهُ) راجع إلى آدم ، وحين كان ترابا لم يكن آدم موجودا.
فالجواب : أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم ؛ تسمية للشيء بما يئول إليه.
قال أبو مسلم : «قد بيّنّا أن الخلق هو التقدير والتسوية ، ويرجع معناه إلى علم الله ـ تعالى ـ بكيفية وقوعه ، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص ، وكل ذلك متقدّم في الأزل ، وأما قوله : كن ، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود ، فثبت أن خلق آدم متقدّم على قوله : كن».
وقال بعضهم : المقول له : كن هو عيسى ، ولا إشكال على هذا.
قوله : (فَيَكُونُ) يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلا ، والمعنى : فيكون كما يأمر الله ـ تعالى ـ فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم.
قال بعضهم : معناه : اعلم يا محمد أن ما قال له ربّك : كن فإنه يكون لا محالة.
ويجوز أن يكون (فَيَكُونُ) بمعنى : «فكان» وعلى هذا أكثر المفسّرين ، والنحويين ، وبهذا فسّره ابن عبّاس رضي الله عنه.
فصل
أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما لك تشتم صاحبنا؟ قال : وما أقول؟ قالوا : تقول : إنه عبد ، قال : أجل ، هو عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ، فغضبوا ، وقالوا : هل رأيت إنسانا ـ قطّ ـ من غير أب؟ فقال «إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم» (١) كأنهم قالوا : يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله ، فقال : إنّ آدم ما كان له أب ولا أمّ ولم يلزم أن يكون أبوه هو الله ، وأن يكون ابنا لله ، فكذا القول في عيسى ، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب ، فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل ، فإن تولّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولّده من التراب اليابس.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٨ ـ ٤٦٠) عن ابن عباس وقتادة والسدي والشعبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦٦) من طريق العوفي عن ابن عباس وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
وذكره أيضا (٢ / ٦٦) عن قتادة وزاد نسبته لعبد بن حميد.
وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٢ / ٥٠٠) عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.
وانظر تفسير البغوي (١ / ٣٠٩) وزاد المسير (١ / ٣٩٨) لابن الجوزي.