فصل
اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول ، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقا بوالد لا إلى أول ، وهو محال ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم. لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] ثم إنه ـ تعالى ـ ذكر في كيفية خلق آدم وجوها كثيرة :
أحدها : أنه مخلوق من التراب ـ كما في هذه الآية.
الثاني : أنه مخلوق من الماء ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) [الفرقان: ٥٤].
الثالث : أنه مخلوق من الطين ، [قال تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ)](١) [السجدة : ٧].
رابعها : أنه مخلوق من سلالة من طين ، قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢].
خامسها : أنه مخلوق من طين لازب ، قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١].
سادسها : أنه مخلوق من صلصال من حمأ مسنون.
سابعها : أنه [خلق](٢) من عجل.
ثامنها : قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤].
قال الحكماء : إنما خلق آدم من التراب ؛ لوجوه :
الأول : ليكون متواضعا.
الثاني : ليكون ستّارا.
الثالث : إذا كان من الأرض ليكون أشدّ التصاقا بالأرض ؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض ؛ لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].
الرابع : أراد الحق إظهار القدرة ، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام ، وابتلاهم بظلمات الضلالة ، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام ، وأعطاهم كمال الشدة والقوة ، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام ، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية ، وخلق السموات من أمواج مياه البحر ، وأبقاها معلّقة في الهواء ، حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهانا باهرا ، ودليلا ظاهرا على أنه ـ تعالى ـ هو المدبر بغير احتياج.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : مخلوق.