فصل
يدخل تحت هذه الآية العين والدّين ؛ لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة ، وعلى المبايعة ، وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين ، ونقل عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة ، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار ، فيؤديه إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار ، فلا يؤديه إليك ونقلنا ـ أيضا ـ أن الآية نزلت في رجل أودع مالا كثيرا عبد الله بن سلام فأدّاه ، ومالا قليلا عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده ، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام.
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوها :
أحدها : أنهم يبالغون في التعصّب لدينهم ، فلذلك يقولون : يحل لنا قتل المخالف ، وأخذ ماله بأي طريق كان ، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صلىاللهعليهوسلم : «كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهليّة إلا وهو تحت قدميّ ، إلّا الأمانة ، فإنّها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر» (١).
الثاني : أن اليهود قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] والخلق لنا عبيد ، فلا سبيل لأحد علينا ، إذا أكلنا أموال عبيدنا.
الثالث : قال القرطبيّ : قالت اليهود : إن الأموال كانت كلّها لنا ، فما في أيدي العرب منها ، فهو لنا ؛ ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم.
الرابع : قال الحسن وابن جريج ومقاتل : إن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصّة ، وليس لكل من خالفهم.
وروي أنهم بايعوا رجالا في الجاهلية ، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال ، فقالوا : ليس علينا حقّ ؛ لأنكم تركتم دينكم. وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم (٢).
قال ابن الخطيب : «ومن المحتمل أنه كان من مذهب اليهود ، أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتدّ ، فهم ـ وإن اعتقدوا أن العرب كفار ، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر ـ حكموا على العرب الذين أسلموا بالرّدّة.
قوله : (لَيْسَ عَلَيْنا) يجوز أن يكون في «ليس» ضمير الشأن ـ وهو اسمها ـ وحينئذ يجوز
أن يكون «سبيل» مبتدأ ، و «علينا» الخبر ، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٢) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٧٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح.