منهم من قال : إنّ قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) وما بعده إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها ـ أيضا ـ قولان :
أحدهما : أنها في أهل الكتاب.
والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا.
فصل
قالت المعتزلة : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميع الخلق إلى الدّين ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يعمّ الكلّ بهذه الأشياء لصار الكافر والضالّ معذورا ، ثم إنه تعالى ـ حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار ، فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوها :
الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ؛ ثوابا لهم على إيمانهم ، كقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] وقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) [المائدة : ١٦] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدى.
الثاني : أن المراد أنه ـ تعالى ـ لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) [النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩] وقال : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [يونس : ٩].
والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه ؛ لأنه ـ على هذا التّقدير ـ يلزم أن يكون الكفر ـ أيضا ـ من الله ؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا خلق المعرفة فيه كان مؤمنا مهتديا ، وإذا لم يخلقها كان كافرا ضالا ، وإذا كان الكفر من الله ـ تعالى ـ لم يصحّ أن يذمّهم الله ـ تعالى ـ على الكفر ، ولم يصحّ أن يضاف الكفر إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمّهم عليه.
وقال أهل السنة : المراد من الهداية خلق المعرفة ، وقد جرت سنّة الله في دار التكليف أن كلّ فعل يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله ـ تعالى ـ يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟
فإن قيل : قال ـ في أول الآية ـ : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) وقوله في آخرها : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يقتضي التكرار.