فصل
اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة ؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة ، وإنزال العذاب ، واللعنة من الملائكة ، ومن الناس هي بالقول ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم.
فإن قيل : لم عمّ جميع النّاس ، ومن يوافقه لا يلعنه؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : قال أبو مسلم : له أن يلعنه ، وإن كان لا يلعنه.
الثاني : أنّهم في الآخرة يلعن بعضهم بعضا ، لقوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] وقال : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] وعلى هذا فقد حصل اللّعن للكفار ومن يوافقهم.
الثالث : كأن الناس هم المؤمنون ، والكفّار ليسوا من النّاس.
الرابع : وهو الأصح ـ أنّ جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ، ولكنّه يعتقد في نفسه أنّه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر ـ وكان هو في علم الله كافرا ـ فقد لعن نفسه ، وهو لا يعلم ذلك.
قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) معنى الإنظار : التّأخير ، قال تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] والمعنى : لا يخفّف ، ولا يؤخّر من وقت إلى وقت ، ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي ، حتّى يضاف إليها العمل الصالح ، فقال : (وَأَصْلَحُوا) أي : أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات ، ومع الخلق بالعبادات ، وذلك أنّ الحارث بن سويد لمّا لحق بالكفّار ندم ، وأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل لي من توبة؟ ففعلوا فأنزل الله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فحملها إليه رجل من قومه ، وقرأها عليه ، فقال الحارث : إنك والله ما علمت ـ لصدوق ، وإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصدق منك ؛ وإنّ الله ـ عزوجل ـ لأصدق الثلاثة ، فرجع الحارث إلى المدينة ، وأسلم ، وحسن إسلامه.
وفي قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وجهان :
الأول : أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو.
الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨]. ودخلت الفاء في قوله : «فإن الله» لشبه الجزاء ؛ إذ الكلام قد تضمّن معنى : إن تابوا فإن الله يغفر لهم.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ)(٩٠)
قوله : «كفرا» تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى