قال أبو حيان : «ويظهر أنه متعلّق بقوله : (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، أي : من قبل أن تنزّل التوراة ، وفصل بالاستثناء ؛ إذ هو فصل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل «إلا» فيما بعدها إذا كان ظرفا أو مجرورا أو حالا ـ نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكا.
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقا ، نحو ما ضرب إلا زيد عمرا ؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيدا عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فيقدّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره ـ هنا ـ حل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة».
وقرىء : (تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قول من قال بأن «تنزّل» ـ بالتشديد ـ يدل على أنه نزل منجّما ؛ لأن التوراة إنّما نزلت دفعة واحدة بإجماع المفسرين.
فصل
لما تقدمت الآيات الدالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب ، بين في هذه الآية الجواب عن شبهاتهم ، وهي تحتمل وجوها :
روي أن اليهود كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلىاللهعليهوسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله ـ تعالى ـ عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حلّا لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالا ، ثم صار حراما عليه وعلى أولاده ، فحصل النسخ ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز ، فلما توجّه على اليهود هذا السؤال أنكروا أن تكون حرمة ذلك الطعام الذي حرّم بسبب أن إسرائيل حرّمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراما من زمان آدم إلى زمانهم ، فعند هذا طلب الرسول صلىاللهعليهوسلم منهم أن يحضروا التوراة ؛ فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرّم بسبب أن إسرائيل حرّمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة ، وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوّي القول بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم.
منها : أن النسخ قد ثبت لا محيص عنه ، وهم ينكرونه.
ومنها : ظهور كذبهم للناس ، فيما نسبوه إلى التوراة.
ومنها : أنه صلىاللهعليهوسلم كان أمّيّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فدل على أنه لم يعرف هذه المسألة الغامضة إلا بوحي من الله تعالى.
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم ، فلست أنت على ملة إبراهيم ، فجعلوا ذلك شبهة طاعنة في صحة دعواه ، فأجابهم النبي صلىاللهعليهوسلم على هذه الشبهة ،