إذا عرف هذا ، فقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) لا يدل على أنه أوّل بيت خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وضع للناس ، فكونه موضوعا للناس يقتضي كونه مشتركا فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركا فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعا للطاعات ، وقبلة للخلق ، فدلّت الآية على أن هذا البيت وضعه الله ـ تعالى ـ للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قبلة للصلوات ، وموضعا للحجّ.
فإن قيل : كونه أولا في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان ، فهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوب حجّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك.
فالجواب من وجهين :
الأول : أن لفظ «الأوّل» ـ في اللغة ـ اسم للشيء الذي يوجد ابتداء ، سواء حصل بعده شيء آخر ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصبته ، ولو قال : أول عبد أملكه فهو حرّ ، فملك عبدا عتق ـ وإن لم يملك بعده آخر ـ فكذا هنا.
الثاني : أن المراد منه : أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يشاركه في كونه موضوعا للطاعات والعبادات ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تشدّ الرّحال إلّا لثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا» ، وهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس ، فأما أن يكون بيت المقدس مشاركا له في جميع الأمور ، حتى في وجوب الحجّ ، فهذا غير لازم.
فصل
قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الوضع والبناء ، وأن يكون أولا في كونه مباركا وهدى ، وفيه قولان للمفسرين.
فعلى الأول فيه أقوال :
أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين.
وفي رواية : «خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين بألفي سنة ، وإنّ قواعده لفي الأرض السّابعة السّفلى».
وروى النووي ـ في مناسكه ـ عن الأزرقيّ ـ في كتاب مكة ـ عن مجاهد قال : إن هذا البيت أحد أربعة عشر بيتا ، في كل سماء بيت ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض.
وروى أيضا عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ عن