أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨].
ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ،) فدلّ ذلك على أن قبلة أولئك الأنبياء هي الكعبة.
القول الثاني : أنّ المراد بالأوليّة : كونه مباركا وهدى ، قالوا : لأنه روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن أول مسجد وضع للنّاس ، فقال : «المسجد الحرام ، ثمّ بيت المقدس ، فقيل : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة ، وأينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد».
وعن علي : أن رجلا قال له : هو أول بيت؟ قال : لا ، كان قبله بيوت ، أول بيت وضع للناس ، مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، أول من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم ، فبنته العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش. ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه ؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأوليّة في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء.
فصل في بيان فضيلته
اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل ـ عليهالسلام ـ وباني بيت المقدس سليمان ـ عليهالسلام ـ فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغ والمهندس جبريل ، والباني هو الخليل ، والتلميذ المعين هو إسماعيل ؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة.
وأيضا مقام إبراهيم ، وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر ـ دون سائر أجزائه ـ كالطين ، حتى غاص فيه قدم إبراهيم من ذلك الحجر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يظهره إلا على الأنبياء ، ثم لمّا رفع إبراهيم قدمه عنه ، خلق الله فيه الصلابة الحجريّة مرة أخرى ، ثم إنه أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرة.
وأيضا قلّة ما يجتمع من حصى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ، ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي ترمى إليه الجمرات مسيل ماء ، ولا مهبّ رياح شديدة ، وقد جاء في الأثر : أن من قبلت حجّته رفعت جمراته إلى السّماء.