وأيضا فإن الطيور لا تمر فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه.
وأيضا فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يؤذي بعضهم بعضا ـ كالكلاب والظباء ـ ولا يصطاد فيه الظباء الكلاب والوحوش ، وتلك خاصّيّة عظيمة ، ومن سكن مكة أمن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيم وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ، وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ، وقال : (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٣ ـ ٤].
وأيضا فالأشرم ـ صاحب الفيل ـ لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة ، فأرسل الله ـ تعالى ـ عليهم طيرا أبابيل ، ترميهم بحجارة ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صغارا ، تحمل أحجارا ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار ـ مع أنها كانت في غاية الصغر ـ وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة.
فإن قيل : ما الحكمة في أن الله ـ تعالى ـ وضعها بواد غير ذي زرع؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه ـ تعالى ـ قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمّن سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى.
وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يحبّون طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا.
وثالثها : أنه فعل ذلك ؛ لئلا يقصدها أحد للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة.
ورابعها : أن الله ـ تعالى ـ أظهر بذلك شرف الفقر ، حيث وضع أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيبا من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمين ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيت الأمن ، وفي الآخرة دار الأمن.
فصل
وللكعبة أسماء كثيرة :
أحدها : الكعبة ، قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة: ٩٧] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعبا ؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف