وإما من الضمير المستكن في الجار وهو «ببكة» لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار بما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله : «للمتقين» أول البقرة.
فصل
البركة لها معنيان.
أحدهما : النمو والتزايد.
والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله ؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال.
والبركة : شبه الحوض ؛ لثبوت الماء فيها ، وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقرّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارك فيه من وجوه :
أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابها فيه ؛ لقوله صلىاللهعليهوسلم : «فضل المسجد الحرام على مسجدي فضل مسجدي على سائر المساجد» ، ثمّ قال : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» هذا في الصلاة ، وأمّا في الحج فقد قال صلىاللهعليهوسلم : «من حجّ هذا البيت ، ولم يرفث ، ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» ، وفي حديث آخر : «الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة» ، ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة.
ثانيها : قال القفّال : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) [القصص : ٥٧] فيكون كقوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١].
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أنّ الكعبة كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علويّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سرّه ، وهذا بحر عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركا. وإن فسرنا البركة بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضا فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يفرض فهو صبح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبة عن توجّه قوم إليها من