المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفور ، وهو قول داود ، والصحيح الأول ؛ لأنّ الله تعالى قال في سورة الحج ـ : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) [الحج : ٢٧] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاث من الهجرة ، ولم يحجّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخّره عامدا.
فصل
روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، أكتب علينا الحجّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثا ، فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال في الرابعة : «لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم».
فصل
احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين :
الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يفد التكرار.
والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة.
قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فيه ستة أوجه :
أحدها : أن «من» بدل من : «النّاس» بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضمير يعود على المبدل منه ، نحو : أكلت الرّغيف ثلثه ، وسلب زيد ثوبه ، وهنا ليس من ضمير. فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم.
الثاني : أنه بدل كلّ من كلّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي.
الثالث : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : هم من استطاع.
الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع.
وهذان الوجهان ـ في الحقيقة ـ مأخوذان من وجه البدل ؛ فإنّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفا.
الخامس : أن «من» فاعل بالمصدر وهو «حجّ» ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلا البيت.