شهادتكم في عظائم الأمور ومن كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب ، والضلال والإضلال؟
ثم قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله: (وَاللهُ شَهِيدٌ ؛) لأنهم كانوا يظهرون إلقاء الشّبه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحيل ـ فلا جرم ـ قال فيما أظهره : (وَاللهُ شَهِيدٌ ،) وختم هذه الآية بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ؛) لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير.
وكرر في الآيتين قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) ؛ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٠١)
لمّا حذّر أهل الكتاب عن الإغواء والإضلال ، حذّر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم.
روي أن شأس بن قيس اليهوديّ كان عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد ، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأوس والخزرج ـ وهم في مجلس جمعهم يتحدثون ، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغض ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها ـ من قرار ، فأمر شابّا من اليهود ـ كان معه ـ فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظّفر فيه للأوس على الخزرج ـ ففعل : فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرّكب ـ أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة ، من الأوس وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج ـ فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جذعة ، فغضب الفريقان جميعا ، وقالا : قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ـ وهي حرّة ـ فخرجوا إليها ، وانضمّت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فخرج إليهم ـ فيمن معه من المهاجرين ـ حتى جاءهم فقال : «يا معشر المسلمين ، أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، وألّف بينكم ، فترجعون إلى ما كنتم كفّارا؟ الله الله». فعرف القوم أنها نزغة من شيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سامعين مطيعين ،