قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قال ابن عباس : هي الجنة (١).
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد ـ وإن كثرة طاعاته ـ لا يدخل الجنة إلا برحمة الله ؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رجحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرّجحان لا يكون إلا بخلق الله ـ تعالى ـ فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجبا على الله شيئا كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله ـ تعالى ـ وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا.
قرأ أبو الجوزاء ، وابن يعمر : اسوادّت ، وابياضّت ـ بألف (٢) ـ وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادّ ، وهذا قياسها ، وأصل «افعلّ» هذا أن يكون دالّا على عيب حسّيّ ـ ك «اعورّ واسود واحمرّ» ـ وأن لا يكون من مضعف كأجمّ ، ولا معتل اللام كألمى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضّ الحائط ، وابهارّ الليل ، واشعارّ الرجل ـ تفرّق شعره ـ إذ لا دلالة فيها على عيب ، ولا لون ، وندر ـ أيضا ـ ارعوى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته ـ بمعنى ، كففته ـ وليس دالّا على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في «افعلّ» هذا ـ فدالّ على عروض ذلك المعنى ، وعدمها دالّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلت : اسوادّ وجهه ، دلّ على اتصافه بالسواد من غير عروض فيه ، وإذا قلت : اسوادّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يعكس ، قال تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] ـ فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين ـ وقال : (تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) [الكهف : ١٧] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار ـ كذا قيل ـ وفيه نظر ؛ لأن المقصود وصف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصّة.
فصل
قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة.
وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابيضّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسودّ وجهه.
قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضّ وجهه ، وإذا قرأ الكافر كتابه ، فرأى سيئاته اسودّ وجهه.
__________________
(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (٨ / ١٥٠) عن ابن عباس.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٢٨ ، والدر المصون ٢ / ١٨٤.