يطعم الناس ويكسوهم ـ لأن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يشعر بالعلّيّة ، فها هنا لما ذكر ـ عقيب الخيرية ـ أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب ، وهذا أغرب الأوجه.
فصل
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه لما حذّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب ـ في التفرّق والاختلاف ، وذكر ثواب المطيعين ، وعقاب الكافرين ، وكان الغرض من ذلك حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة ، أردفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة ، فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ،) فاللائق بكم ألا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة ، وإن كنتم منقادين للطاعات.
الثاني : أنه ـ تعالى ـ لما ذكر وعيد الأشقياء ، وتسويد وجوههم ـ ونبّه على السبب بقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) يعني : أنهم إنما استحقّوا ذلك بأفعالهم القبيحة ؛ نبّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) يعني : أن تلك السعادات التي فازوا بها في الآخرة ؛ لأنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
قال عكرمة ، ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولي أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا اليهوديّين قالا لهم : نحن أفضل منكم ، وديننا خير مما تدعوننا إليه. [فأنزل الله هذه الآية].
وروى الترمذيّ ـ عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ـ أنه سمع النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول ـ في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) قال : «أنتم تتمّون سبعين أمّة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى». قال : هذا حديث حسن. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١) إلى المدينة.
وقال جويبر ـ عن الضّحّاك ـ : هم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم خاصّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم (٢).
وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) تكون لأولنا ، ولا تكون لآخرنا (٣).
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٠١) والحاكم (٤ / ٧٦) وصححه أحمد (٢٤٦٣ ـ شاكر).
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ١١٣) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٠٢).
(٣) ذكره البغوي في تفسيره ١ / ٣٢١.