ـ في ذلك اليوم ـ أكثر ، فصرف الكلام إليه أولى ؛ ولأن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقا ، غير مشروط بشرط ، فوجب أن يحصل ، وإنّما حصل يوم بدر ، لا يوم أحد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا ؛ لأنهم وعدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أحد.
وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم ـ في الحجّة الأولى ـ إنّ النبي صلىاللهعليهوسلم ، إنما أمدّ يوم بدر بألف ، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه ـ تعالى ـ أمد أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسة آلاف فكأنه صلىاللهعليهوسلم قال لهم : ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربّكم بخمسة آلاف.
الثاني : أن أهل بدر إنّما أمدّوا بألف ـ على ما ذكر في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير ، فخافوا ، وشقّ عليهم ذلك ، لقلّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد ، فأنا أمدّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش ، فاستغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف.
وأما قولهم : إن الكفار كانوا ـ يوم بدر ـ ألفا ، فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة ، ويوم أحد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف ، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك ، بل يفعل الله ما يشاء من زيادة ونقص بحسب ما يريد ، وأما التمسك بقوله : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ) فالجواب : أن المشركين لما سمعوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد تعرّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم ، واجتمعوا ، وقصدوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك ، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة.
فصل
قال القرطبيّ : «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر ، لا يحتاج إليه الرّبّ تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق ، فليعلق القلب بالله ، وليثق به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢] ، ولا يقدح ذلك في التوكّل ، وهو ردّ على من قال : إن الأسباب إنما سنّت في حقّ الضعفاء ، لا الأقوياء ؛ فإنّ النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه كانوا أقوياء ، وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح».