الثاني : أنها نزلت بسبب أنه صلىاللهعليهوسلم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا ، فمنعه الله من ذلك قاله ابن عباس.
الثالث : أنه صلىاللهعليهوسلم أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا ، وخالفوا أمره ، ويدعو لهم ، فنزلت الآية.
القول الثاني : أنها نزلت في واقعة أخرى ، وهي أنه صلىاللهعليهوسلم بعث جمعا من خيار أصحابه ـ وهم سبعون رجلا من القرّاء إلى بئر معونة ، في صفر سنة أربع من الهجرة ، على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم ، فوجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك وجدا شديدا ، وقنت شهرا في الصلوات كلّها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين ، فنزلت الآية ، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد.
فإن قيل : ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمر كان صلىاللهعليهوسلم يريد أن يفعله ، وذلك الفعل إن كان بأمر الله ، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله ، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣]؟ وأيضا فالآية دالة على عصمة الأنبياء ، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية ، إن كان حسنا فلم منعه الله؟ وإن كان قبيحا ، فكيف يكون فاعله معصوما؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مشتغلا به ؛ فإنه تعالى ـ قال للنبي صلىاللهعليهوسلم (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، وإنه صلىاللهعليهوسلم لم يشرك قط ، وقال : «يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ، ثم قال : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) [الأحزاب : ١] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم ، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغمّ الشديد ، والغضب العظيم ، وهو قتل عمه حمزة ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل ، فنصّ الله على المنع ؛ تقوية لعصمته ، وتأكيدا لطهارته.
والثاني : لعله صلىاللهعليهوسلم همّ أن يفعل ، لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل ، والأولى ، فلا جرم ، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأولى ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٦ ـ ١٢٧] فكأنه ـ تعالى ـ قال : إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ، ثم قال ثانيا : وإن تركته كان ذلك أولى ، ثم أمره أمرا جازما بتركه ، فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧].
ووجه ثالث : وهو أنه صلىاللهعليهوسلم لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم ، استأذن ربه فيه ، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير ، فلا يدل هذا النهي على القدح في العصمة.