الصفة الثالثة : قوله : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ).
قال القفال : يحتمل أن يكون هذا راجعا إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا ، فنهي المؤمنين عن ذلك ، وندبوا إلى العفو عن المعسرين ، فإنه تعالى قال ـ عقب قصة الربا والتداين ـ : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) وقال (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٠].
ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حين مثّلوا بعمّه حمزة ، وقال : لأمثلنّ بهم فندب إلى كظم هذا الغيظ.
وقال الكلبي : العافين عن المملوكين (١) سوء الأدب.
وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمن ظلمهم وأساء إليهم (٢) ، قال صلىاللهعليهوسلم : «لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه ، ويعفو عمّن ظلمه ويعطي من حرمه» (٣).
وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال : «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، ذاك مكافأة ، إنّما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك» (٤).
ثم قال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس ، فيدخل كل محسن ، وأن تكون للعهد ، فتكون إشارة إلى هؤلاء.
وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن الله ـ تعالى ـ يعفو عن العصاة ، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال ، وأحبّهم ، وهو أكرم الأكرمين ، والعفو والغفور الحليم ، والآمر بالإحسان ، فكيف يمدح بهذه الأفعال ، ويندب إليها ، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١٣٥)
__________________
ـ (١٣١٧) وابن عبد البر في التمهيد (٦ / ٣٢١ ، ٣٢٢) والسهمي في «تاريخ جرجان» (٤٥١) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٥٣١) عن أبي هريرة مرفوعا.
(١) أخرجه القرطبي في «تفسيره» (٤ / ١٣٣) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٣ / ٦٣).
(٢) انظر المصدر السابق.
(٣) أخرج الحاكم في المستدرك ٤ / ١٦١ ، ١٦٢ عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما ، فبدرته ، فأخذت بيده ، فأخذ بيدي فقال : يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا وأهل الآخرة؟
تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، ألا من أراد أن يمد له في عمره ويبسط في رزقه ، فليتق الله ، وليصل ذا رحمه.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٥). وعزاه لأحمد وابن عساكر عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم ... فذكره.