ورجّح أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :
أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد «إلّا» مثبت ، والمعنى : كان قولهم : ربّنا اغفر لنا دأبهم في الدعاء ، وهو حسن.
والمعنى : وما كان قولهم شيئا من الأقوال إلا هذا القول الخاصّ.
فصل
معنى الآية : وما كان قولهم عند قتل نبيّهم إلا أن قالوا : ربّنا اغفر لنا ذنوبنا ، والغرض منه تحريض هذه الأمة بالاقتداء بهم.
قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف ؛ لأنه ـ تعالى ـ لما ضمن النّصرة للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة ، وظهر أمارات استيلاء العدو ، دلّ ذلك ـ ظاهرا ـ على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النّصرة ، فبيّن ـ تعالى ـ أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي ، فقالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : الصغائر (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي : الكبائر ؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ؛ قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٦٣] وقال (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء : ٣٣] وقال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف : ٣١] ويقال : فلان مسرف ـ إذا كان مكثرا في النفقة.
قوله : (فِي أَمْرِنا) يجوز فيه وجهان :
الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفت في كذا.
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال منه ، أي : حال كونه مستقرا في أمرنا. والأول أوجه. ثم سألوا ـ بعد ذلك ـ أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوف عن قلوبهم ، وهذا يدلّ على أن فعل العبد مخلوق لله ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين ، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائد على ثبات أقدامهم.
قال القاضي : وهذا تأديب من الله ـ تعالى ـ في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن ، سواء كان في الجهاد أو غيره.
قوله : (فَآتاهُمُ اللهُ) يقتضي أن الله ـ تعالى ـ أعطاهم [الأمرين](١) أما ثواب الدّنيا فهو : النصرة والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدر بنور الإيمان ، وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة.
وقرأ الجحدريّ (٢) فأثابهم ـ من لفظ الثواب ـ وخصّ ـ تعالى ـ ثواب الآخرة
__________________
(١) في أ : الأجرين.
(٢) انظر : البحر المحيط ٣ / ٨١ ، والدر المصون ٢ / ٢٣١ ، والقرطبي ٤ / ١٤٩.