قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ؛ لأنهم لمّا شاهدوا أن الله ـ تعالى ـ أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها ، سلبهم الله ذلك الإكرام ، وأذاقهم وبال أمرهم.
قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني : الذين تركوا المركز ، وأقبلوا على النهب (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير ، حتى قتلوا. قال عبد الله بن مسعود : وما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يريد الدنيا ، حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية(١).
قوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) عطف على ما قبله ، والجملتان من قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ (٢) مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) اعتراض بين المتعاطفين ، وقال أبو البقاء (٢) : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) معطوف على الفعل المحذوف.
يعني الذي قدره جوابا للشرط ، ولا حاجة إليه ، و «ليبتليكم» متعلق ب «صرفكم» و «أن» مضمرة بعد اللام.
فصل
اختلفوا في تفسير هذه الآية ؛ وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية ، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهور المفسّرين : الخير والشر بإرادة الله تعالى وتخليقه ، ومعنى هذا الصّرف أنّ الله تعالى ردّ المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم ، وسلّط الكفار عليهم.
وقالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز ؛ للقرآن والعقل ، أم القرآن فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يضيفه بعد هذا إلى نفسه؟
وأما المعقول فإن الله تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان ذلك بفعل الله لم تجز معاتبتهم عليه ، كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم ، ثم ذكروا وجوها من التأويل :
أحدها : قال الجبائيّ : إنّ الرّماة افترقوا فرقتين ، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم ، وبعضهم بقي هناك ، فالذين بقوا أحاط بهم العدوّ ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدوّ من غير فائدة أصلا ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو ـ كما فعل النبي صلىاللهعليهوسلم حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه ـ ولم يكونوا عصاة بذلك ، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه إلى نفسه ، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه ، ثم قال : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) والمراد : أنه ـ تعالى ـ لما صرفهم إلى ذلك
__________________
(١) ذكره الرازي في تفسيره (١ / ٣٦٢.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٥٤.