إنما خلق ليستمتع بها ، والاستمتاع بمتاع الدنيا على وجوه :
منها : أن ينفرد به من خصّه الله تعالى بهذه النعم ، فيكون مذموما.
ومنها : أن يترك الانتفاع به ـ مع الحاجة إليه ـ فيكون مذموما.
ومنها : أن ينتفع به في وجه مباح ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم.
ومنها : أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة ، وذلك هو الممدوح.
قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ،) أي : المرجع ، فالمآب : مفعل ، من آب ، يئوب ، إيابا ، وأوبة وأيبة ، ومآبا ، أي : رجع ، والأصل : مأوب ، فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ، فقلبت الواو ألفا ، وهو ـ هنا ـ اسم مصدر ، أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكان ، أو زمان ، تقول : آب يئوب أوابا وإيابا كقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] وقوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ : ٢١ ـ ٢٢]. فإن قيل : المآب قسمان : الجنة ، وهي في غاية الحسن ، والنار ، وهي خالية عن الحسن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟
فالجواب : أنّ المقصود ـ بالذات ـ هو الجنة ، وأما النار فمقصودة بالعرض ، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ؛ لأن قوله : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : ما يتمتع به فيها ، ثم يذهب ولا يبقى ، قال ـ عليهالسلام ـ «إنّما الدّنيا متاع ، وليس من متاع الدّنيا شيء أفضل من المرأة الصّالحة» (١) ، وقال ـ عليهالسلام ـ : «ازهد في الدّنيا يحبّك الله» أي : في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضّروريّ والله ـ تعالى ـ أعلم.
قوله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)(١٧)
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (٢) بتحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية ، والباقون بالتحقيق فيهما ، ومد هاتين الهمزتين ـ بلا خلاف ـ قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل.
__________________
(١) أخرجه مسلم (٢ / ١٠٩٠) كتاب الرضاع باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة (٦٤ ـ ١٤٦٧) وأبو نعيم في الحلية (٣ / ٣١٠) عن عبد الله بن عمرو بن العاص والبغوي في شرح السنة (٥ / ٩).
(٢) انظر : السبعة ١٣٤ ، وإتحاف فضلاء البشر ١ / ٤٧٠ ، ٤٧١ ، والدر المصون ٢ / ٣٥ ، وحجة القراءات ١٥٥ ـ ١٥٧.