وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبة :
أحدها : التوكيد ، نحو : قم قائما.
الثاني : أنه وصل به ما حسّن التكرير ، وهو الإيمان.
الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون «سمع» مقرونا بالنداء بذكر ما ليس بنداء ، فلمّا قال : «ينادي» ثبت أنهم سمعوا نداءه في تلك الحال.
ومفعول «ينادي» محذوف ، أي : ينادي في الناس ، ويجوز ألا يراد مفعول ، نحو : أمات وأحيا. ونادى ودعا يتعديان باللام تارة ، وب «إلى» أخرى ، وكذلك ندب.
قال الزمخشريّ : وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعا ، فاللام في موضعها ولا حاجة إلى أن يقال : إنها بمعنى «إلى» ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة ـ أي : لأجل الإيمان ـ كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملا على الرشد وكان كل من تأمّله وصل به إلى الهدى ـ إذا وفّقه الله لذلك ـ صار كأنه يدعو إلى الهدى ، وينادي بما فيه من أنواع الدلائل ، كما قيل ـ في جهنم ـ : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج : ١٧] إذ كان مصيرهم إليها.
فصل
اختلفوا في المراد بالمنادي ، فقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأكثر المفسّرين : يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم (١) وقال القرطبيّ : يعني القرآن ؛ إذ ليس كلهم سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودليل هذا القول ما أخبر الله ـ تعالى ـ عن مؤمني الجنّ إذ قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ١ ـ ٢]. قوله : (أَنْ آمِنُوا) في «أن» قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعراب.
ثانيهما : أنها مصدرية ، وصلت بفعل الأمر ، وفي وصلها به نظر ، من حيث إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وصلها بالأمر بقولهم : كتبت إليه بأن قم فهي ـ هنا ـ مصدرية [ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية](٢) فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبان المشهوران ـ الجرّ والنصب.
قوله : «فآمنّا» عطف على «سمعنا» والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان على السّماع من غير مهلة ، والمعنى : فآمنا بربنا.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨١) عن ابن جريج وابن زيد.
(٢) سقط في أ.