قوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) قرأ علي (١) ـ رضي الله عنه ـ : «تقتلوا» بالتشديد على التكثير ، والمعنى لا يقتل بعضكم بعضا ، وإنما قال (أَنْفُسَكُمْ) لقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمنون كنفس واحدة» (٢) ولأن العرب يقولون «قتلنا ورب الكعبة» إذا قتل بعضهم ؛ لأن قتل بعضهم ، يجري مجرى قتلهم.
فإن قيل : المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه ، لأنه ملجأ إلى ألا يقتل نفسه ، لأن الصارف عنه قائم ، وهو الألم الشديد ، والذم العظيم ، والصارف عنه في الآخرة قائم وهو استحقاق العذاب العظيم.
إذا كان كذلك ، لم يكن للنهي عنه فائدة ، وإنما يمكن هذا النهي ، فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند ، وذلك لا يتأتى من المؤمن.
فالجواب : أن المؤمن مع (٣) إيمانه ، قد يلحقه من الغم ، والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ، ولذلك نرى كثيرا من المسلمين يقتلون أنفسهم ، بمثل السبب الذي ذكرناه ، ويحتمل أن معناه لا تفعلوا ما تستحقون به القتل كالزنا بعد الإحصان والردة ، وقتل النفس المعصومة ، ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ، ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة ، أو محنة حيث لم يأمرهم بقتلهم أنفسهم كما أمر به بني إسرائيل ليكون توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما ، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٣٠)
قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) «من» شرطية [مبتدأ](٤) ، والخبر «فسوف» والفاء هنا واجبة لعدم صلاحية الجواب للشرط ، و «ذلك» إشارة إلى قتل الأنفس قال الزجاج (٥) : يعود إلى قتل الأنفس ، وأكل المال بالباطل ؛ لأنهما مذكوران في آية واحدة.
وقال ابن عباس (٦) : إنه يعود على كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع ، وقال الطبري : «ذلك» عائد على (٧) ما نهي عنه من آخر وعيد وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩] ؛ لأن كل ما ينهى عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً) [النساء : ٣٠]
__________________
(١) وقرأ بها الحسن.
انظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٢ ، والبحر المحيط ٣ / ٢٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٣٥٤.
(٢) تقدم.
(٣) في أ : من.
(٤) سقط في أ.
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٥٩.
(٦) ينظر السابق.
(٧) في أ : هذا غاية.