قال ابن عبّاس (١) : يريد لا رادّ لحكمه ، ولا ناقض لأمره ، على [معنى](٢) أنه لا يبعد عليه شيء [يريد](٣) أن يفعله ، وإنّما قال : (وَكانَ) إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدّمين ، أنّه متى أخبرهم بإنزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة.
فصل : دفع شبهة الجبائي
احتجّ الجبّائيّ بهذه الآية على أنّ كلام الله محدث (٤) ؛ لأنّ المفعول مخلوق.
فالجواب : أنّ الأمر في اللّغة ، جاء بمعنى الشّأن ، والطّريقة ، والفعل ؛ قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧].
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)(٤٨)
لما توعّد على الكفر ، وبين أنّ ذلك التقدير لا بدّ من وقوعه ، يعني : أنّ ذلك إنّما هو من خواص الكفر ، أمّا سائر الذّنوب غير الشّرك ، فإنه يغفرها ، إن شاء.
قال الكلبيّ (٥) : نزلت في وحشيّ بن حرب ، وأصحابه ؛ وذلك أنّه لما قتل حمزة ، كان قد جعل له على قتله أن يعتق ، فلم يوفّ له بذلك ، فلما قدم مكّة ، ندم على صنعه ؛ هو ، وأصحابه ؛ فكتبوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا ، وإنّه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول بمكّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان : ٦٨] الآيات ، وقد دعونا مع الله إلها آخر ، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا ، فلو لا هذه الآيات ، لاتّبعناك ؛ فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] ، الآيتين ؛ فبعث بهما [رسول الله صلىاللهعليهوسلم] إليهم فلما قرءوا ، كتبوا إليه : إنّ هذا شرط شديد نخاف ألّا نعمل عملا صالحا فنزل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،) فبعث بها إليهم ، فبعثوا إليه : إنّا نخاف ألّا نكون (٦) من أهل المشيئة ؛ فنزلت : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] فبعث بها إليهم ؛ فدخلوا في الإسلام ، ورجعوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقبل منهم ، ثم قال [عليه الصلاة والسلام](٧) لوحشي : «أخبرني : كيف قتلت حمزة؟» ، فلمّا أخبره ، قال : «ويحك! غيّب وجهك عنّي» ، فلحق وحشيّ بالشّام ، وكان بها إلى أن مات (٨).
وروى أبو مجلز ، عن ابن عمر : «لمّا نزلت : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ٩٩.
(٢) سقط في أ.
(٣) سقط في أ.
(٤) في أ : يحدث.
(٥) ينظر : معالم التنزيل ١ / ٤٣٩.
(٦) في أ : أن لا نكون.
(٧) سقط في أ.
(٨) انظر تفسير الرازي (١٠ / ١٠١).