جائز ، فيتعيّن أن يكون المراد : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) حكمه غير مذكور في الكتاب والسّنّة والإجماع ، فيجب أن يردّ حكمه إلى الأحكام المنصوصة المشابهة له (١) ، وذلك هو القياس.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : (فَرُدُّوهُ) أي : فوّضوا حكمه إلى الله ولا تتعرّضوا له ، أو يكون المراد : ردّوا غير المنصوص إلى المنصوص ؛ في أنّه لا يحكم فيه إلا بالنّصّ ، أو فردّوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصليّة.
والجواب (٢) عن الأوّل والثّاني : أنه ـ تعالى ـ جعل الوقائع قسمين (٣) : منها ما هو منصوص عليه ، ومنها ما لا يكون كذلك ، ثم أمر في القسم الأوّل بالطّاعة والانقياد ، وأمر في الثّاني بردّه إلى الله وإلى الرّسول ، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرّدّ السكوت ؛ لأن الواقعة ربّما كانت لا يحلّ السّكوت فيها ، بل لا بدّ من قطع الخصومة فيها ، إما بنفي أو إثبات ، فامتنع حمل الرّدّ إلى (٤) الله على السّكوت.
وأما الثالث : فإنّ البراءة الأصليّة معلومة بحكم العقل ، فالرّدّ إليها ليس ردّا إلى الله ، وإذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها ، كان ذلك ردّا إلى أحكام الله ـ تعالى ـ.
فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس
دلّت هذه الآية على أنّ الكتاب والسّنّة مقدّمان على القياس مطلقا ، فلا نترك العمل بهما بسبب القياس ، ولا يجوز تخصيصها بالقياس ألبتّة ، سواء كان القياس جليّا أو خفيّا ، وسواء كان ذلك النّصّ مخصوصا قبل ذلك أم لا ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أمر بطاعة الكتاب والسّنّة في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصّصهما ، أو لم يوجد ؛ ولأن قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) صريح بأنه لا يجوز العدول إلى القياس ، إلّا عند فقدان الأصول الثلاثة ، وأيضا فإنّه أخّر ذلك القياس عن ذكر الأصول الثّلاثة ، وذلك يدلّ على أنّ العمل به مؤخّر عن الأصول الثلاثة ؛ ولأن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم اعتبر هذا التّرتيب في قصّة معاذ ، وأخر الاجتهاد عن الكتاب والسّنّة ، وعلّق جوازه على عدم وجدانهما ، ولمّا عارض إبليس عموم الأمر بالسّجود بقياسه في قوله (٥) : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فخصّ العموم بالقياس ، وقدّمه على النّصّ ، فصار بهذا السّبب ملعونا ، وأيضا فإن القرآن مقطوع بمتنه ، والقياس مظنون من جميع الجهات ، والمقطوع راجح على المظنون ، وأيضا العمل بالظّنّ من صفات الكفّار في قولهم : (ما أَشْرَكْنا وَلا
__________________
(١) في ب : المنصوبة له.
(٢) في ب : فالجواب.
(٣) في ب : فيهن.
(٤) في ب : على.
(٥) في ب : «بقوله».