قبل أن يهاجروا إلى المدينة ، ويلقون من (١) المشركين أذّى شديدا ، فيشكون ذلك إلى الرّسول ، ويقولون : ائذن لنا في قتالهم ، ويقول لهم الرّسول : كفّوا أيديكم ، فإني لم أومر بقتالهم ، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصّلاة والزّكاة ، فلمّا هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة ، وأمر بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم وشقّ عليه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (٢). فذهب بعضهم إلى أنّها نزلت في المؤمنين ، واحتجّوا : بأنّ الّذين يحتاج الرّسول إلى أن يقول لهم كفّوا عن (٣) القتال ، هم الرّاغبون في القتال ؛ وهم المؤمنون.
ويمكن الجواب عنه : بأنّ المنافقين كانوا يظهرون أنّهم مؤمنون ، وأنّهم يريدون قتال الكفّار ، فلما أمر الله بقتالهم الكفّار ، أحجم المنافقون عنه ، وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه.
وقيل : نزلت في المنافقين ، واحتجّوا بأنّ الله ـ تعالى ـ وصفهم بأنّهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ،) وهذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق ؛ لأن المؤمن لا يخاف من النّاس أشدّ من خوفه من الله ، وأيضا قولهم : «ربنا لم كتبت علينا القتال» اعتراض على الله ـ تعالى ـ ، وذلك من صفة الكفّار والمنافقين ، وأيضا قوله ـ تعالى ـ للرّسول : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) وهذا الكلام إنّما يذكر لمن كانت رغبته في الدّنيا أكثر من رغبته في الآخرة ، وذلك من صفات المنافقين.
وأجاب القائلون بالقول الأوّل : بأن حبّ الحياة والنّفرة عن القتل من لوازم الطّبع ؛ فهذه الخشية محمولة على هذا المعنى ، وقولهم : «لم كتبت علينا القتال» محمولة على التمنّي بتخفيف التّكليف ، لا على وجه إنكار [لإيجاب](٤) الله ـ تعالى ـ.
وقوله [ـ تعالى ـ](٥) : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) ذكره ليهوّن على القلب أمر هذه الحياة ؛ لكي تزول عن قلبه نفرة القتال وحبّ الحياة ، ويقدمون على الجهاد بقلب قويّ ، لا لأجل الإنكار.
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم ، قالوه خوفا وجبنا لا
__________________
(١) في ب : مع.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة مختصرا.
ورواية الكلبي ذكرها القرطبي في «تفسيره» (٥ / ١٨١) والرازي في «التفسير الكبير» (١٠ / ٢٤٧).
وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٠٧) والطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٤٩) والبيهقي (٩ / ١١) وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» (٢ / ٣٢٨) عن ابن عباس مختصرا وفي آخره قال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم.
فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) وقال الحاكم : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٣) في ب : كفوا أيدكم عن.
(٤) سقط في ب.
(٥) سقط في أ.