من الأمور ، فإنكم كنتم لا تتّبعونه فيها ، وعلى هذا فهو استثناء مفرّغ ؛ ذكر ذلك ابن عطيّة (١) ، إلا أنّ في كلامه مناقشة : وهو أنّه قال «أي : لاتّبعتم الشّيطان كلّكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها» ، فجعله هنا مستثنى من المتّبع فيه المحذوف على ما تقدّم تقريره ، وكان تقدّم أنه مستثنى من الاتّباع ، فتقديره يؤدّي إلى استثنائه من المتّبع فيه ، وادّعاؤه أنه استثناء من الاتباع ، وهما غيران.
التاسع : أن المراد بالقلة العدم ، يريد : لاتّبعتم الشّيطان كلكم وعدم تخلّف أحد منكم ؛ نقله ابن عطية عن جماعة وعن الطّبري (٢) ، وردّه بأن اقتران القلّة بالاستثناء يقتضي دخولها ؛ قال : «وهذا كلام قلق ولا يشبه ما حكى سيبويه من قولهم : «هذه أرض قلّ ما تنبت كذا» أي : لا تنبت شيئا».
وهذا الذي قاله صحيح ، إلا أنه كان تقدّم له في البقرة في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] أن التّقليل هنا بمعنى العدم ، وتقدّم الردّ عليه هناك ، فتنبّه لهذا المعنى هنا ولم يتنبه له هناك.
العاشر : أن المخاطب بقوله : «لاتبعتم» جميع النّاس على العموم ، والمراد بالقليل : أمة محمّد صلىاللهعليهوسلم خاصة ، وأيّد صاحب هذا القول قوله بقوله ـ عليهالسلام ـ : «ما أنتم في سواكم من الأمم إلّا كالرّقمة البيضاء في الثّور الأسود» (٣).
فصل دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآية على أنّ القياس حجّة في الشّرع ؛ لأن قوله : (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) صفة لأولي الأمر ، وقد أوجب الله على الذين يجيئهم أمرين : الأمن ، أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ولا يخلو إمّا أن يرجعوا إليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النّصّ فيها أو لا ، والأوّل باطل ؛ لأن من استدلّ بالنّصّ في واقعة لا يقال : إنه استنبط الحكم ؛ فثبت أنه ـ تعالى ـ أمر المكلّف بردّ الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ، ولو لا أن الاستنباط حجّة ، لما أمر المكلّف بذلك ؛ فثبت أن الاستنباط حجّة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : دلت الآية على أمور :
منها : أن في الأحكام ما لا يعرف بالنّصّ ، بل بالاستنباط.
ومنها : أنّ الاستنباط حجّة.
__________________
(١) ينظر : تفسير المحرر الوجيز ٢ / ٨٥.
(٢) ينظر : الطبري ٤ / ١٨٦.
(٣) أخرجه بهذا اللفظ الإمام مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان (٣٧٨) وله شاهد من حديث ابن مسعود بلفظ : ما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.
أخرجه البخاري كتاب الرقاق : باب كيف الحشر رقم (٦٥٢٨) ومسلم كتاب الإيمان ب ٩٥ رقم (٣٧٧) وابن ماجه (٤٢٨٣) وأحمد (١ / ٢٣٨).