فإن قيل : ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً)؟
فالجواب : أن فائدة التكرار أمور :
أحدها : أن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ، ثم آمنوا ، ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا يدلّ على شدّة الاضطراب ، وضعف الرأي ، وقلّة الثبات ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ، ولا هيبة له ، ولا قدرة له على إلحاق الضّرر بالغير.
ثانيها : أن أمر [الدّين](١) أهمّ الأمور وأعظمها ، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه ـ على الفعل ، أو على التّرك ـ إلا بعد إمعان النّظر ، وكثرة الفكر ، وهؤلاء يقدمون على الفعل ، أو على الترك في هذا المهم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات ، وهذا يدلّ على قلّة عقولهم ، وشدة حماقتهم ، وأمثال هؤلاء لا يلتفت العاقل إليهم.
ثالثها : أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّين لا بناء على الشّبهات ، بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدّنيا ، ومن كان عقله بهذا القدر ـ وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا ـ كان في غاية الحماقة ، ومثله لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)(١٧٨)
قرأ الجمهور «يحسبن» بالغيبة ، وحمزة بالخطاب (٢) ، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير (٣) كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا «أنما» ونصبوا «خير» وأنكرها ابن مجاهد ـ وسيأتي إيضاح ذلك ـ وقرأ يحيى بن وثاب (٤) بالغيبة وكسر «إنما». وحكى عنه الزمخشري ـ أيضا ـ أنه قرأ بكسر «أنما» الأولى وفتح الثانية مع الغيبة (٥) ، فهذه خمس قراءات.
فأما قراءة الجمهور ، فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسندا إلى «الذين» و «أن» وما اتصل بها سادّة مسد المفعولين ـ عند سيبويه ـ أو مسدّ أحدهما ، والآخر محذوف ـ عند الأخفش ـ ويجوز أن يكون مسندا إلى ضمير غائب ، يراد به النبي صلىاللهعليهوسلم أي لا يحسبن النبي صلىاللهعليهوسلم. فعلى هذا يكون «الذين كفروا» مفعولا أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، لتتحد هذه القراءة ـ على هذا الوجه ـ مع قراءة حمزة رحمهالله ، وسيأتي تخريجها.
__________________
(١) في أ : الدنيا.
(٢) انظر : السبعة ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، والحجة ٣ / ١٠١ ، وحجة القراءات ١٨٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢٣ ، والعنوان ٨١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٦ ، وشرح شعلة ٣٢٧ ، وإتحاف ١ / ٤٩٥.
(٣) انظر : معاني القرآن ١ / ٤٩١.
(٤) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٥٤٥ ، والبحر المحيط ٣ / ١٢٨ ، والدر المصون ٢ / ٢٦٦.
(٥) انظر : الكشاف ١ / ٤٤٤.