وقول القائل : ما المراد بهذه الآية؟ لا يلتفت إليه ؛ لأن المستدلّ نفى الاستدلال على أن اللام للتعليل ، فإذا بطل ذلك سقط استدلاله.
وعن الثالث ، وهو مسألة العلم والخبر ، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار ، وهو باطل.
والجواب عن الأول أنّ المنفيّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلة ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يذكر مقابله ، فلما لم يذكر دلّ على أن المنفيّ هو الخير مطلقا. وتمسّكهم بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) [النساء : ٦٤] جوابه : أن ما تمسّكوا به عام ، ودليلنا خاصّ. وقولهم : اللام للعاقبة ، قلنا : خلاف الظاهر ـ مع أن البرهان العقليّ يبطله ؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصوله ؛ لأن حصول معلومه واجب ، وعدم حصوله محال ، وإرادة المحال محال فوجب أن يرد ما هو الواقع ، فثبت أن المقصود هو التعليل. وأما التقديم والتأخير ، فجوابه : أن ذلك على خلاف الأصل ؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت «أنّما» الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم : لا يمكن حمل اللام على التعليل ، قلنا : الممتنع ـ عندنا ـ تعليل أفعاله ـ تعالى ـ بغرض يصدر عن العباد ، فأما أنه يفعل فعلا ليحصل منه شيء آخر ، فغير ممتنع.
وأيضا فالآية نصّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم ، والقوم لا يقولون به ، فهي حجة عليهم ، وأما المعارضة فجوابها : أن تأثير قدرة الله تعالى ـ في إيجاد المحدثات ـ متقدم على تعلّق علمه بعدمه ، فلم يمكن أن يكون العلم مانعا من القدرة ، وأما العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلّق علم الله تعالى بعدمه ، فصحّ كون هذا العلم مانعا للعبد عن الفعل.
قال ابن الخطيب : اتفق أصحابنا ، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمة دينية ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآية ، وقالوا : دلت على أن إطالة عمره ليست بخير له ، والعقل يقرّره لك ؛ لأن من أطعم إنسانا طعاما مسموما لا يعد ذلك إنعاما ، فإذا كان القصد من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة ، ومما ورد من النعم في حقّ الكافر محمول على ما هو نعمة في الظّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة.
قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٧٩)
اللام في «ليذر» تسمّى لام الجحود (١) ، وينصب بعدها المضارع بإضمار «أن» ولا
__________________
(١) لام الجحود ناصبة بنفسها عند الكوفيين ، ولقيامها مقام إذا عند ثعلب ، وبإضمار أن عند البصريين ـ