فصل
المراد بالضّرب : السفر البعيد (١) ، وقوله : «غزّى» هم الغزاة الخارجون للجهاد ، فكان المنافقون يقولون ـ إذا رأوا من مات في سفر أو غزو ـ : إنما ماتوا ، أو قتلوا بسبب السفر والغزو ، وقصدهم بذلك تنفير الناس.
فإن قيل : لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض ـ وهو داخل فيه؟
فالجواب : أن الضرب في الأرض يراد به السفر البعيد ، لا القريب ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض ، وفي الغزو لا فرق بين قريبه وبعيده ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب في الأرض.
قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ) في هذه اللام قولان :
قيل : إنها لام «كي».
وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلّق هذه اللام وجهان :
فقيل : التقدير : أوقع ذلك ـ أي : القول ، أو المعتقد ـ ليجعله حسرة ، أو ندمهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين ـ باعتبار ما يراد باسم الإشارة.
أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : «يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبكم خاصّة ، ويصون منها قلوبكم» ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد.
وأما بالاعتبار الثاني فإنه قال : «ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النّهيّ ، أي : لا تكونوا مثلهم ؛ ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمّهم ويغيظهم».
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال ـ بعد ما حكى عنه المعنى الأول ـ : «وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ؛ لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي ، إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقوهم فيما قالوه واعتقدوه ، فلا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبس على الزمخشريّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة».
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟
__________________
(١) انظر تفسير الطبري (٧ / ٣٣٢).