قوله سبحانه : (كَما أَوْحَيْنا) : الكاف نعت لمصدر محذوف ، أي : إيحاء مثل إيحائنا ، أو على أنه حال من ذلك المصدر المحذوف المقدّر معرّفا ، أي : أوحيناه ، أي : الإيحاء حال كونه مشبها لإيحائنا إلى من ذكر ، وهذا مذهب سيبويه (١) ، وقد تقدّم تحقيقه ، وفي «ما» وجهان : أن تكون مصدرية ؛ فلا تفتقر إلى عائد على الصحيح ، وأن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون العائد محذوفا ، أي : كالذي أوحيناه إلى نوح ، و «من بعده» متعلق ب «أوحينا» ، ولا يجوز أن تكون «من» للتبيين ؛ لأنّ الحال خبر في المعنى ، ولا يخبر بظرف الزمان عن الجثّة إلا بتأويل ، وأجاز أبو البقاء (٢) أن يتعلّق بنفس «النّبيّين» ، يعني أنه في معنى الفعل ؛ كأنه قيل : «والذين تنبئوا من بعده» وهو معنى حسن.
فصل لماذا ذكر نوح ـ عليهالسلام ـ أولا
قالوا : إنّما بدأ ـ تعالى ـ بذكر نوح ؛ لأنه كان أبا البشر مثل آدم ـ عليهالسلام ـ ، قال : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) [الصافات : ٧٧] ؛ ولأنّه أول نبيّ شرح الله على لسانه الأحكام ، وأوّل نذير على الشّرك ، وأوّل من عذّبت أمّته لردّهم دعوته ، وأهلك (٣) أهل الأرض بدعائه ، وكان أطول الأنبياء عمرا ، وجعلت معجزته في نفسه ، لأنّه عمر ألف سنة ، فلم تنقص له سنّ ، ولم تشب له شعرة ، ولم تنتقص له قوّة ، ولم يصبر أحد على أذى قومه مثل ما صبر هو على طول عمره.
فصل
قوله [ـ تعالى ـ](٤)(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) ثم خصّ بعض النّبيّين بالذّكر ؛ لكونهم أفضل من غيرهم ؛ كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].
واعلم أنّه ذكر في هذه الآية اثنا عشر نبيّا ، ولم يذكر موسى معهم ؛ لأن اليهود قالوا : إن كنت يا محمّد نبيّا [حقّا](٥) ، فأتنا بكتاب من السّماء دفعة واحدة ؛ كما أتى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالتّوراة دفعة واحدة ؛ فأجاب الله عن هذه الشّبهة بأنّ هؤلاء الأنبياء الاثني عشر ، كانوا أنبياء ورسلا ، مع أنّ واحدا منهم لم يأت بكتاب مثل التّوراة دفعة واحدة.
__________________
(١) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٠٣.
(٣) في ب : وهلك.
(٤) سقط في أ.
(٥) سقط في ب.