وقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) عطف على «المسيح» ، أي : ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيدا لله ، وقال أبو حيان (١) ما نصّه : «وفي الكلام حذف ، التقدير : ولا الملائكة المقرّبون أن يكونوا عبيدا لله ، فإن ضمّن «عبدا» معنى «ملكا لله» ، لم يحتج إلى هذا التقدير ، ويكون إذ ذاك (وَلَا الْمَلائِكَةُ) من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لحظ في «عبد» معنى الوحدة ، فإن قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) يكون [من] عطف الجمل ؛ لاختلاف الخبر ، وإن لحظ في قوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ) معنى : «ولا كل واحد من الملائكة» كان من باب عطف المفردات» ، وقال الزمخشريّ (٢) : «فإن قلت : علام عطف «والملائكة»؟ قلت : إمّا أن يعطف على «المسيح» ، أو اسم «يكون» ، أو على المستتر في «عبدا» لما فيه من معنى الوصف ؛ لدلالته على العبادة ، وقولك : «مررت برجل عبد أبوه» فالعطف على المسيح هو الظاهر ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا من فوقه موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبد الله هو ومن فوقه» ، قال أبو حيان : «والانحراف عن الغرض الذي أشار إليه كون الاستنكاف يكون مختصّا بالمسيح ، والمعنى التامّ إشراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبوديّة ، ويظهر أيضا مرجوحيّة الوجهين من وجه دخول «لا» ؛ إذ لو أريد العطف على الضمير في «يكون» أو في «عبدا» لم تدخل «لا» ، بل كان يكون التركيب بدونها ، تقول : «ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين» و «ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو» ، فهذان التركيبان ليسا من مظنّة دخول لا ، وإن وجد منه شيء ، أوّل». انتهى ، فتحصّل في رفع «الملائكة» ثلاثة أوجه ، أوجهها الأوّل.
فصل
استدلّ الجمهور بهذه الآية : على أنّ الملك أفضل من البشر ، وقد تقدّم الكلام عليه ، في البقرة [آية ٣٤].
وقال ابن الخطيب (٣) : والذي نقوله ههنا : إنّا نسلّم أنّ اطّلاع الملائكة على المغيّبات أكثر من اطلاع البشر عليهما ، ونسلّم أن قدرة الملائكة على التّصرّف في هذا العالم أشدّ من قدرة البشر ، إنما النّزاع في أنّ ثواب طاعات الملائكة أكثر ، أم ثواب طاعات البشر وهذه الآية لا تدلّ على ذلك ؛ وذلك أن النّصارى إنّما أثبتوا إلهيّة عيسى ؛ لأنه أخبر عن الغيب (٤) ، وأتى بخوارق العادات ، فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشّبهة ، إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العالم ، وفي هذه القدرة من البشر ، ونحن نقول بموجبه.
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٤١٩.
(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٥٩٧.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ٩٣.
(٤) في ب : الغيوب.