فبيّن تعالى ما يحلّ وما يحرم من المطاعم والمناكح ، ولما كانت الحاجة [إلى] المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح قدم بيان المطعوم على المنكوح ، فلما تم هذا البيان فكأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدّنيا ، فاشتغل أنت في الدّنيا بالوفاء بعهد العبودية ، فلما كان أعظم الطّاعات بعد الإيمان الصّلاة ، ولا يمكن إقامتها إلا بالطّهارة لا جرم بدأ الله تعالى بذكر شرائط الوضوء.
قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).
قالوا : تقديره : إذا أردتم القيام كقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].
وهذا من إقامة المسبّب مقام (١) السبب ، وذلك أنّ القيام متسبّب عن الإرادة ، والإرادة سببه.
قال الزّمخشريّ (٢) : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت : لأنّ الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه ، وإرادته له ، وهي قصده إليه وميله ، وخلوص داعيته ، فكما عبر عن القدرة على الفعل [بالفعل](٣) في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطّيران والإبصار ؛ ومنه قوله تعالى : (نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤] أي : قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنّ [الفعل](٤) مسبّب عن القدرة ، فأقيم [المسبب](٥) مقام السبب للملابسة بينهما ، ولإيجاز الكلام.
وقيل : تقديره : إذا قصدتم الصلاة ؛ لأنّ من توجّه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له ، فعبّر بالقيام عن القصد.
والجمهور قدروا حالا محذوفة من فاعل «قمتم» ، أي : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ؛ إذ لا وضوء على غير المحدث ، وإن كان قال به جماعة قالوا : ويدلّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ،) فكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا ، وامسحوا كذا ، وإن كنتم محدثين [الحدث الأكبر](٦) فاغسلوا الجسد كلّه.
قال شهاب الدّين (٧) : فيه نظر.
فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل؟
قال قوم (٨) : الأمر بالوضوء ليس تكليفا مستقلا بنفسه ؛ لأنّ قوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
__________________
(١) في أ : بعلم.
(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٠٩.
(٣) في ب : عبر عن الفعل.
(٤) في أ : الفعيل.
(٥) في ب : السبب.
(٦) في أ : حدثا أكبر.
(٧) ينظر : الدر المصون ٢ / ٤٩٢.
(٨) ينظر : تفسير الرازي ١١ / ١١٩.