وعلى ما أجازه أبو البقاء أن تكون المسألة من باب الإعمال ، ويكون قد وجد التّنازع بين ثلاثة عوامل ، ويكون من إعمال الثّالث للحذف من الأوّل والثّاني ، وتقدّم تحرير ذلك.
و «أغرينا» من أغراه بكذا أي : ألزمه إياه ، وأصله من الغراء الذي يلصق به ، ولامه واو [فالأصل](١) أغرونا ، وإنما قلبت الواو ياء ؛ لوقوعها رابعة [ك «أغوينا» ،](٢) ، ومنه قولهم : سهم مغروّ أي : معمول بالغراء ، يقال : غري بكذا يغرى غرى وغراء ، فإذا أريد تعديته عدّي بالهمزة ، فقيل : أغريته بكذا.
والضمير في «بينهم» يحتمل أن يعود على (الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى) ، وأن يعود على اليهود المتقدمين الذّكر ، وبكلّ قال جماعة كما [قدّمنا](٣) وهذا الكلام معطوف على الكلام قبله من قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وأخذنا من الّذين قالوا.
قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١٦)
لما حكى عن اليهود والنّصارى نقض العهد ، دعاهم بعد ذلك إلى الإيمان بمحمّد صلىاللهعليهوسلم ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) وأراد اليهود والنّصارى ، ووحّد «الكتاب» إرادة للجنس.
ثم قال : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ).
قال ابن عباس : أخفوا آية الرّجم من التّوراة وبيّنها الرّسول ـ عليهالسلام ـ لهم ، وهو لم يقرأ [كتابا](٤) ولم يتعلّم علما من أحد (٥) ، وهذه معجزة ، وأخفوا صفة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الإنجيل ، وغير ذلك.
قوله : «يبيّن» في محلّ نصب على الحال من «رسولنا» ، أي : جاءكم (٦) رسولنا في هذه الحالة ، و «ممّا» يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفة ل «كثيرا» ، و «ما» موصولة اسميّة ، و «تخفون» صلتها ، والعائد محذوف ، أي : من الذين كنتم تخفونه ، و (مِنَ الْكِتابِ) متعلّق بمحذوف على أنّه حال من العائد المحذوف.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : فأغرينا.
(٣) في أ : قد قبلوا.
(٤) في أ : كتبا.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٥٠٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٧٥) وزاد نسبته لابن الضريس وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
(٦) في ب : حالكم.