وجوّز أبو البقاء (١) : أن تكون حالا من أحد شيئين : إمّا من «ما» الموصولة ، أو من عائدها المحذوف ، وفيه نظر من حيث المعنى.
وقوله : «وكانوا» داخل في حيّز الصّلة أي : وبكونهم شهداء عليه ، أي : رقباء لئلّا يبدل ، ف «عليه» متعلق ب «شهداء» ، والضمير في «عليه» يعود على (كِتابِ اللهِ) وقيل : على الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي : شهداء على نبوّته ورسالته.
وقيل : على الحكم ، والأوّل هو الظاهر.
قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي : استودعوا. وحفظ كتاب الله على وجهين :
أحدهما : أن يحفظ فلا ينسى.
والثاني : أن يحفظ فلا يضيع ، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار ، فالمعنى : العلماء بما استحفظوا.
وقال الزجاج (٢) : يحكمون بما استحفظوا.
قوله تعالى (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ، ويحفظونها عن التحريف والتغيير.
ثم قال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) لمّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار ، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ومنعهم من التحريف والتغيير.
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدم تعالى ذكره فقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس ، ومن الملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم ، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي : كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة ، فإن متاع الدنيا قليل. ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد ، فقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، قالوا : إنه غير واجب فهم كافرون على
__________________
(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٦.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٥.