كونه متصدقا ، أنه إذا جنى جناية ، ولم يعرف به أحد ، فعرف هو بنفسه ، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قاله مجاهد.
ويحكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنسانا في طوافه ، فلم يعرف الرجل من أصابه ، فقال له عروة : «أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزّبير ، فإن كان يعنيك شيء فها أنا ذا» (١) وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون «تصدّق» من الصدقة ، وأن يكون من الصّدق.
قال شهاب الدين (٢) : فالأول واضح ، والثاني معناه أن يتكلف الصدق ؛ لأن ذلك مما يشق.
وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) يجوز في «من» أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط.
و «هم» في قوله : (هُمُ الْكافِرُونَ) ونظائره فصل أو مبتدأ (٣) ، وكله ظاهر مما تقدّم في نظائره.
فإن قيل : إنه ذكر أولا قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وثانيا : (هُمُ الظَّالِمُونَ) والكفر أعظم من الظلم. فلماذا ذكر أعظم التهديدات ، ثم ذكر بعده الأخف فأيّ فائدة في ذلك؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس ففي الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم.
قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٤٦)
قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) الآية ، قد تقدم معنى «قفينا» وأنه من قفا يقفو أي : تبع قفاه في البقرة [الآية ٨٧] وقوله تعالى : (عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى) كلا الجارّين متعلق به على تضمينه معنى «جئنا به على آثارهم قافيا لهم».
وقد تقدم أيضا أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذكرت هناك ، وإيضاحها أنّ «قفا» متعدّ لواحد قبل التضعيف ، قال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦] ف «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي مفعول ، وتقول العرب : «قفا فلان أثر فلان» أي : تبعه ، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين ، فكان التركيب يكون : «ثم قفيناهم عيسى ابن مريم» ف «هم» مفعول ثان ، و «عيسى» أول ، ولكنه ضمّن كما تقدم ، فلذلك تعدى
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٠٣) عن مجاهد.
(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٣.
(٣) في ب : انتهى قوله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.