الأول ، فيتعلق بمحذوف ، أي : صيّر القردة والخنازير كائنين منهم ، وجعلها الفارسيّ في كتاب «الحجّة» له بمعنى «خلق» ، قال ابن عطية : «وهذه منه ـ رحمهالله ـ نزعة اعتزاليّة ؛ لأن قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ، تقديره : ومن عبد الطّاغوت ، والمعتزلة لا ترى أن الله تعالى يصيّر أحدا عابد طاغوت» انتهى ، والذي يفرّ منه في التّصيير هو بعينه موجود في الخلق.
وجعل أبو حيان (١) قوله تعالى (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) إلى آخره ـ من وضع الظاهر موضع المضمر ؛ تنبيها على الوصف الذي به حصل كونهم شرّا مثوبة ، كأنه قيل : قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك عند الله مثوبة؟ أنتم ، أي : هم أنتم ، ويدلّ على هذا المعنى قوله بعد : (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) ، فيكون الضمير واحدا ، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحة الكلام ، وقرأ (٢) أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ : «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة» وهي واضحة.
فصل
المراد (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) يعني : اليهود ، (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) : وهم أصحاب السّبت ، و «الخنازير» : وهم كفّار مائدة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وروي [عن](٣) عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنّ الممسوخين من أصحاب السّبت فشبابهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير (٤).
قوله تعالى : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) في هذه الآية أربع وعشرون قراءة (٥) ، اثنتان في السّبع ، وهما (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) على أنّ «عبد» فعل ماض مبنيّ للفاعل ، وفيه ضمير يعود على «من» ؛ كما تقدّم ، وهي قراءة جمهور السّبعة [غير حمزة] أي : جعل منهم من (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي : أطاع الشّيطان فيما سوّل له ، ويؤيده قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطّاغوت».
والثانية : «وعبد الطّاغوت» بضم الباء ، وفتح الدال ، وخفض الطاغوت ، وهي قراءة حمزة (٦) ـ رحمهالله ـ والأعمش ويحيى بن وثّاب ؛ وتوجيهها كما قال الفارسيّ وهو أن
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣١.
(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٨.
(٣) سقط في أ.
(٤) تقدم هذا الأثر في سورة البقرة.
(٥) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والشواذ (٣٩ ، ٤٠) ، المحرر الوجيز ٢ / ٢١١ ـ ٢١٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٩ ـ ٥٣١ ، والدر المصون ٢ / ٥٥٩ ـ ٥٦٣.
(٦) ينظر : السبعة ٢٤٦ ، والحجة ٣ / ٢٣٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٧ ، والعنوان ٨٨ ، وحجة القراءات ٢٣١ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٣ ، وإتحاف ١ / ٥٣٩.