فإن قيل : إنّه تعالى ذكر المسارعة [لفائدة ؛ وهي أنّهم](١) كانوا يقدمون على هذه المنكرات [كأنهم محقّون](٢) فيها وقد تقدّم حكم «ما» مع بئس ونعم.
قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٦٣)
و «لو لا» : حرف تحضيض ومعناه التوبيخ أي : هلّا ، وقرأ الجرّاح وأبو واقد : «الرّبّيّون» مكان الرّبانيّين ، قال الحسن ـ رحمهالله ـ : «الرّبانيّون علماء أهل الإنجيل ، والأحبار علماء أهل التّوراة» (٣) ، وقال غيره (٤) : كلّهم في اليهود ؛ لأنّه متّصل بذكرهم ، والمعنى : أنّ الله استبعد من علماء أهل الكتاب أنّهم ما نهوا سفلتهم وعوامّهم عن المعاصي ، وذلك يدلّ على أنّ ترك النّهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه ؛ لأنّه تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد ، بل نقول : أنّ ذمّ تارك النهي عن المنكر أقوى ؛ لأنّه قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكلهم السّحت : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في العلماء (٥) التّاركين للنّهي عن المنكر : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والصّنع أقوى من العمل ؛ فإنّما العمل يسمّى صناعة ، إذا صار مستقرّا راسخا متمكّنا ، فجعل [حرم](٦) العاملين ذنبا غير راسخ ، وذنب التّاركين للنهي المنكر ذنبا راسخا ، والأمر في الحقيقة راسخا كذلك ؛ لأنّ المعصية مرض الرّوح ، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية ، كان كالمريض الذي يعالج بأدويته ، قلّ فيها الشّفاء ، ومثل هذا المرض صعب شديد لا يكاد يزول ، وكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أنّ مرض فقد الإيمان في غاية القوّة والشّدّة.
روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : هي أشدّ آية في القرآن (٧) ، وعن الضّحّاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها (٨).
وقرأ (٩) ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ «بئسما» بغير لام قسم ، و «قولهم» مصدر مضاف لفاعله ، و «الإثم» مفعوله.
__________________
(١) في أ : لأنهم.
(٢) سقط في أ.
(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ١٢٣) عن الحسن.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٤.
(٥) ينظر : المصدر السابق.
(٦) سقط في أ.
(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٨) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٤) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٨) عن الضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥) وزاد نسبته لابن المبارك في «الزهد» وعبد بن حميد وابن المنذر.
(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢١٤ ، وفيه : «وقرأ عباس» وينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٢ / ٥٦٥.