والظاهر أن الضمير في «كانوا» عائد على الأحبار والرّهبان ، ويجوز أن يعود على المتقدّمين.
قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(٦٤)
في هذه الحكاية قولان :
أحدهما : أنه خبر محض ، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام ، تقديره : «أيد الله مغلولة»؟ قالوا ذلك لمّا قتّر عليهم معيشتهم ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير.
قال ابن الخطيب (١) : في هذا الموضع إشكال ، وهو أنّ الله تعالى حكى عن اليهود أنّهم قالوا ذلك ، ولا شكّ في أنّ الله تعالى صادق في كلّ ما أخبر عنه ، ونرى [اليهود](٢) مطبقين متّفقين على أنّا لا نقول ذلك ولا نعتقده ، والقول : بأنّ «يد الله مغلولة» باطل ببديهة العقل ؛ لأنّ قولنا : الله اسم لموجود قديم ، قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة مقيّدة قاصرة ، وإلّا فكيف يمكنه ذلك مع قدرته النّاقصة حفظ العالم وتدبيره. إذا ثبت هذا فقد حصل الإشكال في كيفيّة تصحيح هذا النّقل وهذه الرّواية فنقول فيه وجوه :
الأوّل : لعلّ القوم إنّما قالوا هذا القول على سبيل الالتزام ؛ فإنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قالوا : لو احتاج إلى القرض لكان فقيرا عاجزا [فلما حكموا بأنّ الذي يستقرض من عباده شيئا فقير محتاج مغلول اليدين ، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام](٣).
الثاني : لعلّ (٤) القوم لمّا رأوا أصحاب الرّسول عليه الصلاة والسلام في غاية الشّدّة والفقر والحاجة ، قالوا ذلك على ذلك سبيل السّخرية والاستهزاء.
قالوا : إنّ إله محمّد فقير مغلول اليد ، فلما قالوا ذلك حكى الله تعالى عنهم هذا الكلام.
الثالث : قال المفسّرون (٥) ـ رحمهمالله ـ : كانوا أكثر النّاس مالا وثروة ، فلما بعث الله محمدا ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فكذبّوه ضيّق الله عليهم المعيشة ، فعند
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ٦ / ٣٥.
(٢) سقط في أ.
(٣) في أ : فإنه يستقرض فإنه مغلول اليدين.
(٤) في ب : إن.
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٣٥.