واعلم : أنّ عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم ، أن يذكر الأحكام ، ثمّ يذكر عقيبه (١) آيات الوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله ـ تعالى ـ وجلال قدرته ، ثم يعود إلى بيان الأحكام ، وهذا أحسن أنواع التّرتيب ، وأقوى تأثيرا في القلوب ؛ لأن التّكليف بالأعمال الشّاقّة لا يقع موقع القبول ، إلا إذا اقترن (٢) بالوعد والوعيد ، وذلك لا يؤثّر إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد.
قوله [تعالى](٣) : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) الآية اعلم : أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النّساء ، وإنّما يقع عن حالة من أحوالهنّ ، وصفة من صفاتهن ، وتلك الحالة غير مذكورة في الآية ، فكانت مجملة غير دالّة على الأمر الذي (٤) وقع عنه الاستفتاء.
فصل في سبب نزول الآية
قال القرطبي (٥) : هذه الآية نزلت بسبب قوم من الصّحابة ، سألوا عن أمر النّساء وأحكامهن في الميراث (٦) وغير ذلك ، فأمر الله نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقول لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي : يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه ، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السّورة من أمر النّساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها ، فسألوا ؛ فقيل لهم : [إن](٧) الله يفتيكم فيهنّ.
[وروي عن مالك قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كتاب الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ)](٨)(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [البقرة : ٢٢٠] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) [طه : ١٠٥] و (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) [المائدة : ٤].
(وَما يُتْلى) : فيه سبعة أوجه ، وذلك أن موضع «ما» يحتمل أن يكون رفعا ، أو نصبا ، أو جرا ، فالرّفع من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مرفوعا ، عطفا على الضّمير المستكنّ في «يفتيكم» العائد على الله ـ تعالى ـ ، وجاز ذلك للفصل بالمفعول والجارّ والمجرور ، مع أن الفصل بأحدهما كاف.
والثّاني : أنه معطوف على لفظ الجلالة فقط ؛ ذكره أبو البقاء (٩) وغيره ، وفيه نظر ؛ لأنه: إمّا أن يجعل من عطف مفرد على مفرد ، فكان يجب أن يثنّى الخبر ، وإن توسّط بين المتعاطفين ، فيقال : «يفتيانكم» ، إلّا أنّ ذلك لا يجوز ، ومن ادّعى جوازه ، يحتاج إلى
__________________
(١) في أ : بعده.
(٢) في أ : قرن.
(٣) سقط في أ.
(٤) في ب : التي.
(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ٢٥٨.
(٦) في ب : الممات.
(٧) سقط في ب.
(٨) سقط في ب.
(٩) ينظر : الإملاء ١ / ١٩٦.