أكرمت»؟ قلت : هو محذوف ؛ يدلّ عليه قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول ، ناصبوه ، وقوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول : كيف فعلوا برسلهم؟» قال أبو حيان (١) : «وليس «كلّما» شرطا ، بل «كلّ» منصوب على الظرف و «ما» مصدرية ظرفية ، ولم يجزم العرب ب «كلّما» أصلا ، ومع تسليم أن «كلّما» شرط ؛ فلا يمتنع ؛ لما ذكر ، أمّا الأول ؛ فلأنّ المراد ب «رسول» الجنس لا واحد بعينه ، فيصحّ انقسامه إلى فريقين ؛ نحو : «لا أصحبك ما طلع نجم» أي : جنس النجوم ، وأما الثاني ؛ فيعني أنه لا يجوز تقديم معمول جواب الشرط عليه». وهذا الذي منعه إنما منعه الفرّاء وحده ، وأما غيره ، فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنّ «كلّما» شرط ، وأمّا إذا مشينا على أنّها ظرفية ، فلا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك ، ولا يمتنع تقديم معمول الفعل العامل في «كلّما» تقول : «كلما جئتني أخاك أكرمت» ، قال شهاب الدين : هذا واضح من أنها ليست شرطا ، وهذه العبارة تكثر في عبارة الفقهاء دون النّحاة ، وفي عبارة أبي البقاء (٢) ما يشعر بما قاله الزمخشريّ ، فإنه قال : «وكذّبوا» جواب «كلّما» و «فريقا» مفعول ب «كذّبوا» ، و «فريقا» منصوب ب «يقتلون» ، وإنما قدّم مفعول «يقتلون» لتواخي رؤوس الآي ، وقدّم مفعول «كذّبوا» مناسبة لما بعده.
قال الزمخشريّ (٣) : «فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضيا ، وبالآخر مضارعا؟ قلت : جيء ب «يقتلون» على حكاية الحال الماضية ؛ استفظاعا للقتل ، واستحضارا لتلك الحال الشنيعة ؛ للتعجّب منها». انتهى ، وقد يقال : فلم لا حكيت حال التكذيب أيضا ، فيجاء بالفعل مضارعا لذلك؟ ويجاب بأنّ الاستفظاع في القتل وشناعته أكثر من فظاعة التكذيب ، وأيضا ؛ فإنه لمّا جيء به مضارعا ناسب رؤوس الآي.
قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)
قرأ حمزة والكسائيّ وأبو عمرو «تكون» برفع النون (٤) ، والباقون بنصبها ، فمن رفع ف «أن» عنده مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، تقديره : أنه ، و «لا» نافية ، و «تكون» تامة ، و «فتنة» فاعلها ، والجملة خبر «أن» ، وهي مفسّرة لضمير الأمر والشأن ، وعلى هذا ، ف «حسب» هنا لليقين ، لا للشكّ ؛ ومن مجيئها لليقين قول الشاعر : [الطويل]
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤١.
(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.
(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٢.
(٤) ينظر : السبعة ٢٤٧ ، والحجة ٣ / ٢٤٦ ، وحجة القراءات ٢٣٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٨ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٤ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وإتحاف ١ / ٥٤١.