ليس بعلم ولا شكّ ، وجب أن تكون الناصبة ، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين : إن جعلناه يقينا ، جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها ، وإن جعلناه شكّا جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها ، والآية الكريمة من هذا الباب ، وكذلك قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) [طه : ٨٩] وقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ١] لكن لم يقرأ في الأولى إلا بالرفع ، ولا في الثانية إلا بالنصب ، لأن القراءة سنة متبعة ، وهذا تحرير العبارة فيها ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأن بعضهم يقول : يجوز فيها بعد أفعال الشكّ وجهان ، فيوهم هذا أنه يجوز فيها أن تكون المخفّفة ، والفعل قبلها باق على معناه من الشكّ ، لكن يريد ما ذكرته لك من الصلاحية اللفظية بالاعتبارين المتقدمين ، ولهذا قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق؟ قلت : نزّل حسبانهم ؛ لقوّته في صدورهم منزلة العلم» والسبب المقتضي لوقوع المخفّفة بعد اليقين ، والناصبة بعد غيره ، وجواز الوجهين فيما تردّد بين الشّكّ واليقين : ما ذكروه ، وهو «أن» المخفّفة تدلّ على ثبات الأمر واستقراره ؛ لأنها للتوكيد كالمشدّدة ، والعلم وبابه كذلك ، فناسب أن توقعها بعد اليقين للملاءمة بينهما ، ويدلّ على ذلك وقوعها مشدّدة بعد اليقين ؛ كقوله تعالى : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور : ٢٥] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٠٧] إلى غير ذلك ، والنوع الذي لا يدلّ على ثبات واستقرار تقع بعده الناصبة ؛ كقوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) [الشعراء : ٨٢] (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢] (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) [الكهف : ٨٠] (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) [المجادلة : ١٣] إلى غير ذلك ، والنوع المحتمل للأمرين تقع بعده تارة المخففة ، وتارة الناصبة ؛ كما تقدّم من الاعتبارين ، وعلى كلا التقديرين ، أعني : كونها المخففة أو الناصبة ، فهي سادّة مسدّ المفعولين عند جمهور البصريين ، ومسدّ الأول ، والثاني محذوف عند أبي الحسن ، أي : حسبوا عدم الفتنة كائنا أو حاصلا ، وحكى بعض النحويّين أنه ينبغي لمن رفع أن يفصل «أن» من «لا» في الكتابة ؛ لأنّ الهاء المضمرة حائلة في المعنى ، ومن نصب ، لم يفصل لعدم الحائل بينهما ، قال أبو عبد الله : «هذا ربّما ساغ في غير المصحف ، أمّا المصحف ، فلم يرسم إلا على الاتّصال». انتهى ، وفي هذه العبارة تجوّز ؛ إذ لفظ الاتصال يشعر بأن تكتب «أنلا» فتوصل «أن» ب «لا» في الخطّ ، فينبغي أن يقال : لا تثبت لها صورة ، أو تثبت لها صورة منفصلة.
فصل
اختلفوا في الفتنة فقيل : هي العذاب أي : وظنّوا ألا يكون عذاب ، وقيل : هي الابتلاء والاختبار بالقحط ، والوباء ، والقتل والعداوة ، والبغضاء فيما بينهم ، وكلّ ذلك قد وقع بهم ، وكلّ واحد من المفسّرين (١) حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٨ ، البغوي ٢ / ٥٣ ، والقرطبي ٦ / ١٦٠.