فصل في معنى العمى والصّمم
المراد بهذا العمى والصّمم الجهل والكفر ، وإذا كان كذلك فنقول : فاعل هذا الجهل إمّا أن يكون هو الله ـ تعالى ـ أو العبد.
فالأول : يبطل قول المعتزلة.
والثاني : باطل ؛ لأنّ الإنسان لا يختار ألبتّة تحصيل الجهل والكفر لنفسه.
فإن قيل : إنّما اختاروا ذلك ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه علم.
قلنا : هذا الجهل يسبقه جهل آخر ، إلّا أنّ الجهالات لا تتسلسل ، بل لا بد من انتهائها إلى الجهل الأوّل ، ولا يجوز أن يكون هو العبد لما ذكرنا فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى.
ثمّ قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : من قتل الأنبياء وتكذيب الرّسل المقصود منه التّهديد.
قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٧٢)
لمّا تكلم مع اليهود شرع في الكلام هاهنا مع النّصارى.
فحكى عن فريق منهم أنّهم قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذا قول الملكانيّة واليعقوبيّة ؛ لأنهم يقولون : إنّ مريم ولدت إلها ، ولعلّ معنى هذا المذهب أنّهم يقولون : إنّ الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بذات عيسى ، ثم حكى ـ سبحانه وتعالى ـ عن المسيح أنّه قال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، وهذا تنبيه على ما هو الحجّة القاطعة على فساد قول النّصارى ؛ وذلك لأنّه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ لم يفرّق بينه وبين غيره ، في أنّ دلائل الحدوث ظاهرة عليه ، ثم قال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ومعناه ظاهر واحتجّ أهل السّنّة (١) بهذا على أنّ عقاب الفسّاق لا يكون مخلّدا قالوا : لأنّه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتّهديد في حقّ المشركين ، وهو أنّ الله ـ تعالى ـ حرّم عليهم الجنّة ومأواهم النّار ، وأنّه ليس لهم ناصر ينصرهم ، ولا شافع يشفع لهم ، فلو كان حال الفسّاق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة.
قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
__________________
(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥٠.