تدبّرها والإيمان بها ، أو بكونهم قلبوا عمّا أريد بهم ، قال الزمخشريّ (١) : «فإن قلت : ما معنى التراخي في قوله : (ثُمَّ انْظُرْ)؟ قلت : معناه ما بين التعجّبين ، يعني : أنه بيّن لهم الآيات بيانا عجبا ، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه». انتهى ، يعني : أنه من باب التراخي في الرّتب ، لا في الأزمنة ، ونحوه (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] وسيأتي.
فصل في معنى الإفك
يقال : أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه ، والإفك : الكذب ؛ لأنّه صرف عن الحقّ ، وكلّ مصروف عن الشّيء مأفوك عنه.
وقد أفكت الأرض ، إذا صرف عنها المطر.
والمعنى : كيف يصرفون عن الحقّ؟
قال أهل السّنّة (٢) : دلّت الآية على أنّهم مصروفون عن تأمّل الحقّ ، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحقّ والصّدق إلى الباطل والجهل والكذب ، لأنّ العاقل لا يختار لنفسه ذلك ، فعلمنا أنّ الله تعالى صرفهم عن ذلك.
قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦)
وهذا دليل أيضا على فساد قول النّصارى وذلك من وجوه :
الأوّل : أنّ اليهود كانوا يعادون عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ويقصدونه بالسّوء ، فما قدر على إضرارهم ، وكان له أيضا أنصار وصحابة يحبّونه ، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدّنيا إليهم ، والعاجز عن الإضرار والنّفع كيف يعقل أن يكون إلها؟!
الثاني : أن مذهب النّصارى ـ لعنهم الله ـ : أنّ اليهود صلبوه ومزّقوا أضلاعه ، ولما عطش وطلب الماء منهم صبّوا الخلّ في منخريه ، ومن كان في الضّعف هكذا ، كيف يعقل أن يكون إلها؟!
الثالث : أنّ إله العالم يجب أن يكون غنيّا عن كل ما سواه محتاجا إليه ، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى ؛ لأنّ الإله لا يعبد شيئا ، إنّما العبد هو الذي يعبد الإله ، فلما عرف بالتّواتر أنّه كان مواظبا على الطّاعات والعبادات ، علمنا أنّه كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ، ودفع المضارّ إلى غيره ، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ، ودفع المضارّ عنهم؟! وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد ، وهذا هو عين الدّليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم ـ عليهالسلام
__________________
(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٥.
(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥٢.