ـ حيث قال : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢].
قوله تعالى : (ما لا يَمْلِكُ:) يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الّذي» ، وأن تكون نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صلة ، فلا محلّ لها ، أو صفة ، فمحلّها النصب ، وفي وقوع «ما» على العاقل هنا ؛ لأنه أريد به عيسى وأمّه وجوه :
أحدها : أنه أتي ب «ما» مرادا بها العاقل ؛ لأنها مبهمة تقع على كل شيء ، كذا قاله سيبويه (١) ، أو أريد به النوع ؛ كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ، أي : النوع الطّيّب ، أو أريد به العاقل مع غيره ؛ لأنّ أكثر ما عبد من دون الله غير عاقل ؛ كالأصنام والأوثان والكواكب والشّجر ، أو شبهه على أول أحواله ؛ لأنه في أول حاله لا يوصف بعقل ، فكيف يتّخذ إلها معبودا؟
قوله تعالى : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) «هو» : يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا ، و «السّميع» خبره ، و «العليم» خبر ثان أو صفة ، والجملة خبر الأوّل ، ويجوز أن يكون فصلا ، وقد عرف ما فيه ، ويجوز أن يكون بدلا ، وهذه الجملة الظاهر فيها : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «تعبدون» ، أي : أتعبدون غير الله ، والحال أن الله هو المستحقّ للعبادة ؛ لأنه يسمع كلّ شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلام الزمخشريّ ؛ فإنه قال : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) متعلّق ب «أتعبدون» ، أي : أتشركون بالله ولا تخشونه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون؟ أتعبدون العاجز ، والله هو السميع العليم؟. انتهى ، والرابط بين الحال وصاحبها الواو ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة ؛ فإنّ السميع يسمع ما يشكى إليه من الضّرّ وطلب النفع ، ويعلم مواقعهما كيف يكونان؟
قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٧٨)
لما تكلّم أوّلا على أباطيل اليهود ، ثم تكلّم ثانيا على أباطيل النّصارى ، وأقام الدّلائل على بطلانها وفسادها ، فعند هذا خاطب مجموع الفريقين ، فقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، أي : لا تتجاوزوا الحدّ ، والغلوّ نقيض التّقصير ، ومعناه : الخروج عن الحدّ.
قوله تعالى : (غَيْرَ الْحَقِّ:) فيه خمسة أوجه :
__________________
(١) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٠٩.