فإن قيل : كيف مدحهم الله تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا رهبانيّة في الإسلام» (١) ؛ فالجواب : أنّ ذلك صار ممدوحا في مقابلة اليهود في القساوة ، والغلظة ، ولا يلزم من هذا كونه ممدوحا على الإطلاق.
قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) نسق على «أنّ» المجرورة بالباء ، أي : ذلك بما تقدّم ، وبأنّهم لا يستكبرون.
فصل
المراد بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) يعني: وفد النّجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السّبعون ، وكانوا أصحاب الصّوامع.
وقال مقاتل والكلبي : كانوا أربعين رجلا ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من الشّام (٢). وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلا ، أربعون من أهل نجران من بني الحارث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميّون من أهل الشّام (٣).
وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب ، كانوا على شريعة من الحقّ ممّا جاء به عيسى ـ عليهالسلام ـ ، فلمّا بعث محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ صدّقوه ، وآمنوا به (٤) ، فأثنى الله عليهم بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي : علماء.
قال قطرب : القسّ والقسّيس : العالم بلغة الرّوم.
قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا) «إذا» شرطية جوابها «ترى» ، وهو العامل فيها ، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان :
أظهرهما : أنّ محلّها الرفع ؛ نسقا على خبر «أنّهم» الثانية ، وهو «لا يستكبرون» ، أي : ذلك بأنّ منهم كذا ، وأنهم غير مستكبرين ، وأنهم إذا سمعوا ، فالواو عطفت مفردا على مثله.
والثاني : أنّ الجملة استئنافية ، أي : أنه تعالى أخبر عنهم بذلك ، والضمير في «سمعوا» ظاهره : أن يعود على النصارى المتقدّمين ؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعود لبعضهم ، وهم من جاء من «الحبشة» إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
__________________
ـ أعظم الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا ، وجمعهم الدنانير والدراهم ، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق.
(١) تقدم.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ١٦٦) عن مقاتل.
(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ١٦٦) عن مقاتل.
(٤) ينظر : المصدر السابق.