فظهر أنّ الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداء والبغضاء بين النّاس ، والعداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن ، وذلك مضادّ لمصالح العباد.
فلو قيل : لما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ، ثم أفردهما في آخر الآية.
قلنا : لأنّ لهذه الآية خطاب مع المؤمنين ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر ، وإنّما ضمّ الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر ، إظهارا (١) أنّ هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة ، فلما كان المقصود من الآية النّهي عن الخمر والميسر ، لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذّكر.
قال شهاب الدين (٢) : ويظهر شيء آخر ، وهو أنه لم يفرد الخمر والميسر بالذّكر [آخرا] ، بل ذكر معهما شيئا يلزم منه عدم الأنصاب والأزلام [فكأنه] تكملة ذكر الجميع ، بيانه أنه قال : «في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله» بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوّل السّورة ، و «عن الصلاة» باشتغالكم بالأزلام ، وقد تقدّم ، فذكر الله والصّلاة منبّهان على الأنصاب والأزلام.
وأمّا النّوع الثّاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر : المفاسد المتعلّقة بالدّين ، وهو قوله تعالى : (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) ، أمّا كون شرب الخمر يمنع عن ذكر الله وعن الصّلاة ، فظاهر ؛ لأنّ شرب الخمر يورث الطّرب واللّذّة الجسمانيّة ، والنّفس إذا استغرقت في اللّذّات الجسمانيّة ، غفلت عن ذكر الله وعن الصّلاة ، وأمّا كون الميسر مانعا عن ذكر الله وعن الصلاة ، إن كان غالبا صار استغراقه في لذّة الغلبة من أن يخطر بباله شيء سواه ، وإن صار مغلوبا صار شدّة اهتمامه بأن يحتال بحيلة ، حتّى يصير غالبا مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه ، ولا شكّ أن هذه الحالة مما يصدّ عن ذكر الله وعن الصّلاة ، ولمّا بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر ، واللّعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدّين ، قال تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).
فصل
قال القرطبي (٣) : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، وإطلاق الرّجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها ، وخالفهم في ذلك ربيعة ، واللّيث بن سعد ، والمزنيّ ، وبعض المتأخّرين من البغداديّين والقرويّين ، وقالوا : إنّها طاهرة وأنّ المحرّم إنما هو شربها ؛ لأنّ الميسر والأنصاب والأزلام ليسوا بنجس ، فكذلك الخمر ، ولجواز سكبها
__________________
(١) في ب : الظاهر.
(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٠٥.
(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ١٨٦.